منيرة بن مصطفى حشّانة في إيوان "العربي الجديد": عن هابرماس وأزمة الفنون اليوم
لا تفتأ الأيام تطرح علينا الأخبار والمناسبات في حركة دائرية لا تتوقف. ومن أجل أن نلتقط بعض ملامح المعنى من الراهن المفلت، يستضيف موقع "العربي الجديد" في سلسلة حوارات "إيوان" مثقفين لنستمع إلى قراءاتهم وأفكارهم في يوميات مجتمعاتنا، وفي الأثناء يتحدثون عن صنعتهم الإبداعية.
عن رمضان، وتحوّلاته الثقافية بما هي تحوّلات اجتماعية، تُحدّثنا الباحثة التونسية في الجماليات منيرة بن مصطفى حشانة. حديث يمتد إلى ملامح من عوالم مؤلّفاتها، ومنها نذكر: "هابرماس: المعنى والعقلانية التواصلية"، و"الجمالية والنقد في فكر هابرماس"، و"الفن والتجربة التواصلية"، و"سؤال القيمة في التجربة الجمالية المعاصرة".
■ كيف ترين تغيّر رمضان من زمن إلى آخر؟ بعبارة أخرى، كيف تجدين تحوّلات مجتمعاتنا من خلال تغيّر السلوكيات والتعبيرات الإبداعية في رمضان من عقد إلى آخر؟
- رمضان من وجهة نظر فلسفية هو نوع من "تمارين الذات"، تمارين القدرة على مكافحة الذات ومراقبتها أخلاقياً، هو تنمية القدرة على محاسبة الذات يومياً على كل ما أنجزته وتحديد ما هو إيجابي وما هو سلبي في ذلك. إلى جانب غاية ثانية هي تدريب الذات على التعاطف مع الآخر ومع الغريب ومع المهمش.
للأسف، نحن نلاحظ أن هذه الغايات الأساسية تكاد تكون مفقودة في حياتنا اليومية الرمضانية وغير الرمضانية. مجتمعاتنا الإسلامية تحولت إلى حد كبير وهذا التحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع معولم له آثار عميقة في بنية الذات العربية التي تعيش أثناء شهر رمضان نوعاً من الهجانة المُفزعة بين التوق إلى جذورها الروحانية واللغوية الخالصة وبين عدم القدرة على التعبير عن ذاتها في مرآة الدراما.
■ أعمالك البحثية والتأليفية مدارها فلسفة الفن، ما الذي أغراك باختيار هذا الحقل المعرفي للكتابة فيه والتفكير ضمن مشاغله؟
- في الواقع كان شغفي بالفنون منذ المراحل الأولى للدراسة وقد تطور في شكل اهتمام بضروب التعابير الفنية مثل الشعر والأدب والرسم، خاصة وأننا في المعهد الثانوي درسنا التربية التشكيلية إلى حدود الباكالوريا، وكانت هناك تجربة درسنا فيها المسرح، وتدربنا قليلاً على ضروب الإلقاء التعبيري.
كل هذه العوامل جعلتني أهتم بفلسفة الفن، التي درستها لدى أستاذين يعتبران من روّاد الاختصاص في الجامعة التونسية، هما رشيدة التريكي وتوفيق الشريف. الأولى جعلتنا نكتشف علاقة النظرية بالممارسة في الجماليات، والثاني جعلنا نبحث ونفكر في الخصوصية الثقافية للفن العربي الإسلامي.
وكانت رسالة التعمّق في البحث تتعلق بجمالية الذات أو جمالية الوجود أو بالتضافر بين الإتيقي والجمالي عند فوكو من خلال كتابيه: "استعمال الملذات" و"الانهمام بالذات"، وقد كان ذلك البحث مناسبة لاكتشاف مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا. بعد ذلك أنجزت أطروحة الدكتوراه حول هابرماس، وهي منشورة وبحكم تعلقها بفلسفة هابرماس كان يغلب عليها طابع الفلسفة السياسية والقانونية أحياناً. رسالة الدكتوراه هذه تمحورت حول موضوع "العقل والتواصل والنقد عند يورغن هابرماس" وكانت ضرباً من المساءلة للجذور الكانطية والفيختية والهيغلية لفكر هابرماس أو نوعاً من جنيالوجيا العقل التواصلي.
ومن خلال قراءة فوكو وهابرماس، وكذلك دريدا وليوتار وآرنت، ومن خلال العودة إلى الجذور الكانطية، حاولتُ أن أُعمّق المحاور التي لفتت نظري وتمحورت كلها حول مفهوم التواصل والتواصلية كما سعيتُ لاحقاً في بعض مقالاتي إلى تنزيل هذه المسألة في الواقع الثقافي العربي.
أما مرحلة ما بعد الدكتوراه، فقد كتبت فيها عديد المقالات حول شواغل الفن والجماليات سواء من الناحية النظرية الصرفة أو من زاوية ثقافية. وتدور هذه المسائل حول محور أعقد وأهم هو الفضاء العمومي في صلته بالمعقولية والنقد، وعلاقة المعقولية بالفعل التواصلي وعلاقتها بالجمالية، وهي مساءلات تتنزل بطبيعة الحال في إطار جدل الحداثة وما بعد الحداثة.
■ وأنت تمارسين الكتابة الفكرية، لو ترشّحين لنا فكرة أو مفهوماً ترين أنه من المفيد أن يصل إلى شريحة واسعة من القراء..
- أرشح مفهومين هما الإبداع والتواصل. الإبداع بما هو مفهوم لا يقتصر على ممارسة الفن بل يتجاوزه كما بيّن ذلك فيلسوف الإنشائية روني باسرون بأن الإنسان كائن مبدع، في كل المجالات، فكلّ إبداع إنساني يغيّر حياة البشر سواء كان تقنياً أو علمياً أو قانونياً أو سياسياً.
وفي ما يتعلق بالفن، فإن الإبداع هو محرك صيرورة إنتاج العمل الفني، ومن المهم أن نتابع تلك الحركية في الفنون التي تنطلق من الفكرة وصولاً إلى العمل المكتمل، وتحمل الكثير من التردّدات والصراع مع المادة والخوف من الإخفاق.
أما مفهوم التواصل فهو محرك استمرارية العمل الفني، حيث يبدأ في شكل تلقٍّ نقدي، ونحن نعرف أن حياة العمل الفني مرهونة بتلقيه وانفتاحه.
■ من الواضح الحضور البارز للمفكر الألماني يورغن هابرماس في مقارباتك كما في كتاباتك، حدثينا عنه وكيف لنا أن نستفيد منه في فضائنا العربي؟
- بصفة عامة أعتقد أن هابرماس حاضر بقوة في عالمنا العربي من خلال ما خصّص له من ترجمات ودراسات ورسائل ماجستير ودكتوراه. والاستفادة منه تتم خاصة عبر استغلال وجهة نظره حول أخلاقيات النقاش وحول الديمقراطية الجذرية وحول مسألة الدين.
تبرز لنا أركيولوجيا الفضاء العمومي منذ كانط استحالة مواصلة تجذير النقد والوعي النقدي ضمن المشروع الأنواري. ومن هنا نتبيّن حدود الفضاء العمومي الأنواري وضرورة التجاوز نحو تفعيل موارد الفضاء العمومي النقدي. فالتواصل وعدٌ بالحرية لكنه أحياناً وعد كاذب ومغدور. والسؤال هو كيف نتبنى هذه المفارقة ويواصل مشروع الحداثة الاكتمال؟
قدم هابرماس أيضاً فكرة المجتمع المدني الذي يتحوّل بذاته ويملك موارد تحوّله ومقاومته للنسق ضد فكرة المحافظين الجدد وضد الأصولية. فالتطور والتحول الذاتي للنسق السياسي لا يرجع إلى ذات كلية تتزعم مسيرة التاريخ ولا إلى تصور أخروي إسكاتولوجي. ولقد حاولت في مختلف كتاباتي أن أتمثل هذا الانزياح لفكرة النقد، الذي ينطلق من الحنين إلى الأنوار، ويؤدي إلى فكرة الديمقراطية الجذرية. كما حاولتُ إبراز حدوده الخاصة في ما يتعلق بالظرف العربي وخصوصياته. وسعيت إلى تمثّل تلك الحدود عبر العودة إلى مفاهيم الخلاف واللااعتراف والعنف كما تتبلور عند أكسل هونيث وجان فرانسوا ليوتار. إننا مع هابرماس مدينون لهذا الفكر الثري والمتطلع، الذي استطاع أن يجمع إلى حد ما بين التقليد القاري والتقليد التحليلي، واستطاع أن يدمج تلك العناصر ضمن تمثل للعقل التواصلي ودوره السياسي والإتيقي والجمالي.
■ كيف ترين حضور التراث في المنتجات الفنية الحديثة من دراما وروايات تاريخية؟ وهل أنت راضية عن الصورة التي تبلغ عرب اليوم عن تاريخهم؟
- في الواقع اعتبر أننا، في ما عدا بعض الاستثناءات النادرة، لا نستحضر التراث بالشكل الإبداعي الجيد بقدر ما نحنطه ونجعله أقنوماً وصنماً نقف عند بابه. وهذه المشكلة التي تبدو في الكثير من الأعمال الفنية والدرامية العربية تخفي صعوبة أعمق وأشد تجذراً هي عدم القدرة على النظر إلى الماضي والتراث بطريقة عقلانية تفكرية، وما زالت أمامنا أشواط كثيرة حتى نبلغ تلك المرحلة التي ننظر فيها إلى ماضينا الحضاري من زاوية التعدد والتنوع لا من زاوية أحادية اختزالية.
■ لو تقدّمين لقارئ لم يتعرف إليك بعدُ عملاً من أعمالك تعتبرينه الأقرب إليك.
- كتابي "سؤال القيمة في التجربة الجمالية المعاصرة" كان مساحة للاستناد إلى فكر هابرماس من أجل اكتشاف ثراء المقاربات الألمانية المعاصرة، خاصة في المجال الجمالي من خلال الجدل بين زيل ومنكه وفلمار وغيرهم، وهابرماس طبعاً، ودفعني إلى مساءلة علاقة الحداثة بالمعاصرة والاستفادة من الطابع التعددي لفكر هابرماس الذي ينهل من الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس. ولهذا ارتأيت أن تحليل الظاهرة الفنية المعاصرة لا يستقيم ويتعمق إلا إذا راوحنا بين مختلف المقاربات، ومختلف السجالات الفلسفية، داخل المجال الواحد.
وإذا كنت في كتابات سابقة قد اشتغلتُ على البعد التداولي للفن وللتجربة الجمالية، فإنني أردت في هذا الكتاب تعميق هذا البعد بالخوض في خصومة القيمة في التعابير الفنية المعاصرة. صحيح أن العصور السابقة عرفت خصومات حول الإبداع الفني ودوره وعلاقته بالواقع، بدءاً من موقف أفلاطون من الشعر والشعراء في محاورة الجمهورية إلى خصومة القدامى والمحدثين وجدل المنظورية في عصر النهضة إلى "صالون المرفوضين" في القرن التاسع عشر ورد الفعل السلبي ضد الانطباعية. لكن "خصومة الفن المعاصر "(إذا ما سمحنا لأنفسنا باستعارة عبارة هي في الأصل عنوان لكتاب مارك جيمنز) هي خصومة ذات خصوصية دقيقة، لأنها تأتي إثر نهاية المقاييس الكلاسيكية وتراجع القيم الجمالية التقليدية. فنهاية البراديغمات التقليدية هي إعلان عن أزمة ثلاثية الأبعاد: أزمة مفهوم الفن وأزمة مفهوم الفنان وأزمة مفهوم الأثر. فكيف يستطيع الباحث الجمالي اليوم أن يشتغل على مفاهيم متأزمة بل متشظية؟ وهل باستطاعته تمثل المعايير الجمالية في مثل هذا الوضع؟
نحن في وضع يرفع حرية الإبداع والتعبير إلى أقصى حدودها، إلى حد أن عالم الفن قد يحتوي بل إنه قد احتوى "ما هب ودب" وأصبح "أي شيء" فنا. من هنا تتبدى أطراف النزاع بين أنصار الحنين إلى القيم الجمالية الكلاسيكية وأنصار الجديد حيث يرى الأولون في الكثير من الأعمال المعاصرة آثاراً بلا معنى وبلا قيمة ونتيجة سالبة لديمقراطية الممارسة الفنية، ويرى الآخرون في خصومهم أناساً دوغمائيين يتشبثون بالماضي ولا يقدرون على تمثل الجدة والطرافة التي يحملها الفن المعاصر.
■ من قراءاتك، لو تقترحين عبارة محبّبة إليك.
- مقولة نيتشه: "الفن ولا شيء غير الفن. لنا الفن حتى لا تميتنا الحقيقة".