عيد العشّاق، 14 شباط/ فبراير لم يختلف عن غيره من المناسبات المماثلة في زمن كورونا. مثلها كان عيداً بإصرار الناس على الحياة، ولم يكن عيداً بسبب الخوف على الحياة. كان الاعتراف به، لفرط ما هو إرادي ومصنوع، أقرب إلى الإنكار. كان أشبه بحفل وداع أو سكرة وداع. مثل بقيّة الأعياد في زمن كورونا، بدا جنوناً وصراعاً مع القدر. مع ذلك لم يكن العيد في منشئه شيئاً آخر، فهو، أوّل مرّة، لم يكن سوى ذكرى قطع رأس القدّيس فالنتاين عام 237 م، التي صادفت يوم مهرجان لوبركاليا الذي يحتفل الرومان فيه بالخصب ومَقدم الربيع.
في القرن الخامس حوّل البابا هذا اليوم إلى عيد القدّيس فالنتاين، الذي يُقال إنّ الإمبراطور كلوديوس أعدمه عقاباً على معارضته لقرار الإمبراطور بمنع زواج الشبّان ليتسنّى لهم الوقت لأداء الخدمة العسكرية. في المسألة إذن، كما تناهت إلينا، شبهة زواج، ممّا يمتّ لما يعنيه العيد من الحب والإخصاب. أمّا صلته بالقدّيس نفسه فهي غامضة، ولو تردّدت حكاية عن حب القدّيس لطفلة هي ابنة سجّانه، والتي كانت تزوره في سجنه، وتستطرد الحكاية فتنسِب للقدّيس أنه ترك رسالة لها قبل إعدامه وقّعها "فالنتاينيك".
أيّاً كان الأمر فإن العيد، كما رُوي عنه، ينطلق من مأساة حب، أو من مأساة بالمطلق. يمكننا أن نفهم من ذلك أن ازدواج الحب والموت في عيد العشّاق لا يبعد كثيراً، عمّا هي الحال، في زمن كورونا. الأرجح أنه يمر بهذا الوقت بكل ثقل المأساة التي أطلقته. الأمر بالنسبة للبنانيّين لا يقل فداحة، فقد صادف أنَّ نهار العيد هو اليوم الذي اغتيل فيه رئيس الوزراء رفيق الحريري، في انفجار لا يزال دويّه يتردّد في الذاكرة وفي التاريخ الراهن للبنان. نسبة العيد إلى يوم إعدام القدّيس تتطلّب قرباناً وأضحية، كانها في ذلك اليوم رفيق الحريري، وزمن كورونا، بدون شك، عامر بالأضحيات، لذا يبدو التعييد بيوم فالنتاين الآن عودةً إلى المنبت والمعنى الأصلي للعيد.
كان عيداً بإصرار الناس على الحياة، ولم يكن كذلك بسبب الخوف عليها
يوم 14 شباط في تاريخنا لا يتوقّف عند اغتيال الحريري. له سابقة في مآسينا، وربما ملاهينا، التاريخية. هذا اليوم تواترت المكاسب والخسائر في تاريخه منذ القرن الخامس، فهو اليوم الذي أُعلن فيه اختراع الهاتف الذي طبع عصراً بكامله، وأُنجزت فيه أوّل غواصة تعمل بالديزل. لكنه، في المقابل يوم زلزال ألاسكا الكبير. أمّا بالنسبة لنا، فثمة تواريخ له، لم يتميّز حتى الآن في أي خانة تُوضَع، في الملاهي أو المآسي، في التاريخ أو في الهامش.
في هذا اليوم على سبيل المثال، أُعلن الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن، لم يترك الاتحاد في التاريخ سوى هذا الخبر، فهو لم يكن سوى ردّ إعلامي على وحدة مصر وسورية بقيادة جمال عبد الناصر، لكنه أيضاً يوم فتوى الخميني 1986 بإعدام سلمان رشدي جزاء روايته "آيات شيطانية"، هذه الفتوى الذي ألجأت رشدي إلى التخفّي، وقفت عند هذا الحد. هناك أيضاً في هذا اليوم إعدام كان في حينه ذا أثر، هو إعدام سلمان يوسف "فهد" مؤسّس الحزب الشيوعي العراقي عام 1946، ولن يكون اغتيال الحريري 2005 سوى إعدام آخر. هكذا يتردّد إعدام القدّيس فالنتاين في تواريخنا.
منذ اغتيال الحريري، غدا العيد مناسبة مُلبِسة في لبنان إلى أبعد حد. واجه اللبنانيون عند ذلك الحين حرجاً تاريخياً، بل هم، ابتداءً من هذا اليوم، شاهدوا تاريخهم يعمل ويتصارع في داخله ويتحوّل إلى دمار تدريجي وانهيار لم يتوقّف عن التفاقم، إلى أن وصل الأمر إلى ما هو فيه الآن من أزمات متلاحقة. يمكننا لذلك أن نَعتبر أن 14 شباط بداية تاريخ كامل لبلد كلبنان. منذ ذلك الحين واللبنانيون يتلقّون إرث ذلك اليوم. استتبع اغتيال الحريري إعدامات لا يبدو أنها انتهت، ولا يزال يتملّكنا الخوف من أن تتجدّد، فهناك دوماً نذير بذلك. ليس الخطر هو فحسب موجة إعدامات ثانية وثالثة كان آخرها اغتيال لقمان سليم.
ليست الأضحية هي الحريري وحده، ثمّة ما يُنذر بأن تكون هذه المرّة لبنان كلّه. إذ يبدو أن لا مفرّ من التصدّع والانقسام، ولم يعُد هناك مجالٌ بعد للتصحيح. ما هو في الشارع، مهما كانت قوّته وحجمه، لن يستطيع أن يواجه قدراً كاملاً لا مردّ له، ولا قدرة على ردعه.
* شاعر وروائي من لبنان