انتشرت في الآونة الأخيرة فيديوهات يُفترض أنهما توثيقية يتم خلالها ذبح صحافيين أميركيين وعامل إغاثة بريطاني، على يد عنصر من "داعش" (تنظيم "الدولة الإسلامية"). هذه الفيديوهات تختلف كلياً عما عهدناه من فيديوهات قطع الرؤوس مذ لمع نجم القاعدة في أوائل الألفية الجديدة حتى الآن، حيث، وفي أغلب الحالات، تُصوَّر هذه الفيديوهات بكاميرا بسيطة، وعادةً بكاميرا هاتف محمول. اعتقادي الشخصي أن هذه الفيديوهات مفبركة، واذا كان حقاً مصير هؤلاء الأسرى الذبح، فإنه حتماً لم يحدث خلال تصوير هذا الفيديو.
بغض النظر عن مصير الأميركيين جيمس فولي وستيفن سوتلوف والبريطاني ديفيد كوثورن هينز، فإن الفيديو أُخرج من قبل "مخرج" وأٌنتج من قبل "منتج" وهذا مما لا شك فيه. هذا عمل فني/ ترفيهي كان فيه خيارات فنية واضحة لا بد من الخوض فيها. سوف نحلل هذه الفيديوهات بشكل موجز مثلها مثل أي عمل فني مرئي مسموع آخر، على أمل أن يساعدنا ذلك في فهم حقيقة هذه السلسلة.
في كل الفيديوهات كان هناك طاقم تصوير مكوّن من مصوّرَيْن (على الأقل) يصوران بكاميرات HD عالية الجودة. الصورة الأولى هي لرجل يجلس على ركبتيه ويداه مقيدتين خلف ظهره، وآخر يقف بجانبه. من منظور ترتيب العوامل المصوَّرة في إطار الصورة (الـ composition) فإن عين الإنسان تنجذب بشكل فطري صوب مركز الصورة، لذا قد وضع المخرج الممثلين في وسط إطار الصورة بالضبط، وجعل خلفيتهم بسيطة بمركباتها (رمال) كي لا يخطر ببالنا أن ننظر إلى أي جهة غير مركز الإطار، حيث الشخصيات.
يجلس المحكوم عليه بالإعدام في كل الفيديوهات على ركبتيه، مرفوع الرأس، فاتحاً صدره، ومختلفاً بذلك كل الاختلاف عن جميع الذين نراهم يُعدمون يومياً في وطننا. لا شيء في هيئته يذكّر بأنه أسيرٌ ذليل. وضعية جلوسه تذكّر بأبطال الأفلام الهوليودية الذين حين يعدمون بالرصاص يستقبلون الإعدام بنبلٍ وشهامة وهدوء. هناك تمثيل واضح لفكر الـ "martyrism" (الاستشهاد/ التضحية) بمفهومه المسيحي/الغربي. هؤلاء المذبوحون هم "شهداء حق" وإن ساوركتم شكوك فاسمعوا نصّهم الذي يقدّمون به أنفسهم كأكباش فداء.
النص في الفيديو مباشر جداً ودعائي، هناك مغالاة في أفواه المذبوحين وكأنهم يتعاطفون مع حالة قاتليهم أكثر من التعاطف مع حالتهم هم. تمثيل الشخصيات المتواضع يضاعف من إخفاقات هذا النص المباشر.
من الواضح أن الشخصيات تقرأ عن ورقة موجودة عند نقطة معينة في محاذاة الكاميرا، إذ أن بؤبؤ عينها لا يتحرك عن تلك النقطة. وليس هناك أخطاء لغوية أو أي تلعثمٍ بالكلام. تخيلوا أن إنساناً سيُنحر بعد قليل، يتكلّم بهذه الدرجة من الثبات والرزانة والوضوح.
"عنصر داعش" يمثل شخصية شريرة تشبه التمثيل الهوليويدي لـ"الإرهابي الإسلامي" الخطير. صوته ثخينٌ جداً، يتكلّم بشكل متقطّع، يهدّد مستعيناً بحركات حادة هادئة لإبراز قوة الجسد المتين.
في الفيديو الثاني، في ما يفترض أنه إعدام الصحفي ستيفن سوتلوف، يفتتحه بالقول "لقد عدت"، على نسق ألعاب الفيديو القتالية. غريب هذا العالم الذي تقلّد به الأفلام البشر بشكل سيئ، فيقلّد فيه البشر الأفلام السيئة بطريقة أسوأ. هذا "المسلم الشرير" في الفيديو يقلّد نفسه ولكن بشكل سيء.
هناك احتمال أن هذا التصوير جرى في استوديو، وإضافة الصحراء في الخلفية جاءت في ما بعد، إلا أن أغلب الظن أن التصوير كان بالفعل في صحراء، ولذا وبسبب الرياح لا يمكن المخاطرة بلاقطة صوت عادية، لذا تم وضع "نيك مايك" (لاقط صوت خاص يوضع على الملابس) على كل الممثلين. الصوت واضح جداً وبجودة عاليه وقلما يتشوّش بسبب الريح التي نراها تحرك ملابس الشخصيات. هناك "رجل صوت" مهني في موقع التصوير، وأغلب الظن أن هناك من أجرى معالجة صوتيه للفيديو في مرحلة المونتاج.
هناك مونتاج في الفيديو، وهذا أمر جديد مقارنة بفيديوهات البث الحي ذات اللقطة الواحدة بدون قطع (للصورة)، التي تصلنا من العراق وسوريا. القانون الأول والأهم في المونتاج هو: إن كان لا حاجة إلى "الكَتْ" فلا تقطع الصورة. استعمال الـ"كتّات" في الفيديوهات هو مشابه لاستعمالها في مقابلات الأستوديو، فحين يكون الأشخاص الذين يتكلمون، ثابتين في مكانهم، يمكن أن يمل المشاهد، لذا يُصطنع "الكَت" لإضافة بعد تصويري آخر للمتكلم وإدخال بعض الحركة على هذا الركود. أي أن التفكير من وراء هذا الـ"كت" هو وبشكل واضح ومعلن ترفيهي بحت، من أجل أن لا يمل المشاهد من مونولوغات الشخصيات في الفيديوهات. إلا أن الـ"كتّات"، في حالة الأفلام الداعشية، عفوية جداً، فأحياناً ليس هناك أدنى تفكير فني وراء الانتقال إلى اللقطة القادمة، الأمر الذي يبرز أن المخرج غير متمرس.
اتبع المخرج التقشف كأداة فنية. الملابس بسيطة وبلون واحد، الضحية تلبس برتقالي أسوةً بمعتقلي غوانتنمو الإسلاميين، شخصية "عضو داعش" تلبس ملابس سوداء. لا بد أن هناك من خاط هذه الملابس للشخصيات وعلى مقاسها وحضرها قبل يوم التصوير المحدد. إلا أن المزعج هو درجة نظافة هذه الملابس، فكيف يعقل أن ثياب مقاتل شرس في عصابة وأسيره اللذين يسكنان في الصحراء، لم يمسها الغبار. حتى أن "مقاتل داعش" وطريقة ترتيب ملابسه الجديدة لا تخلو من الأناقة.
يحيلنا هذا إلى وجود طاقم تصوير مهني وممثلي أقسام الإنتاج (المذكورين أعلاه) في موقع التصوير، ومن المفترض أنهم استمروا، كلٌ في مهنته وبمهنية تامة، في لحظة فصل الرأس عن الجسم.
ألا يفترض بأن ملابس القاتل اتسخت بالدم (ولو قليلاً) بعد قطع رأس جيمس فولي بهذه الطريقة؟ كيف يظهر بعدها وهو يمسك ستيفن سوتلوف وملابسه نظيفة (وكذلك هو الأمر بعد قتل ستولوف والانتقال إلى هينز). إن كل ما حدث هناك قد صُوِّر في يوم تصوير واحد مع كل الشخصيات بحسب برنامج تصوير واضح، فلماذا الادعاءات بإمهال أوباما هذه المهلة الزمنية لكي يتراجع عن مهاجمة "داعش"؟
معالجة صورية بسيطة للفيديو عن طريق التلاعب بالألوان ودرجة التباين بين الأبيض والأسود، ثم عرضه بالتصوير البطيء تكشف بأن السكين تأتي وتذهب على عنق جيمس فولي ثماني مرات من غير أن تخرج قطرة دم واحدة، وهذا يحتم تعريف هذا الفيديو كفيلم هوليودي من صنف الـ "B movie" وهو مصطلح أميركي يطلق على أفلام الإثارة ذات الميزانيات المحدودة والتي يظهر شحّ إمكانياتها من خلال المؤثرات التقنية البسيطة.
* سينمائي من فلسطين