طغت الرومانسية على القرن التاسع عشر، فجرى التنبؤ بأن القرن العشرين سيكون عصر العقل: العاطفة فيه على الهامش. كان أبرز ما قدمته الرومانسية، أدبياً، رواية "آلام فرتر" لغوته، التي حلقت في الخيال إلى حد دفع ببعض شباب أوروبا رقيقي المشاعر إلى الانتحار متأثرين بوصف الحب العفيف والطموح إلى تخليده بالموت نقياً من شوائب الحياة.
كان الأمل معقوداً على أن يكون العقل رد فعل على عواطف قد تدمّر الإنسان في سبيل البرهنة على أن العيش بالقلب لا بالعقل هو الأسمى، وأن أوهام الحب حقيقة مطلقة.
أحبط القرن العشرون المتفائلين بالعقل، بعدما افتُتح بحرب طالت القارة الأوروبية وامتدت إلى مستعمراتها، أودت بالبشر إلى العجز إزاء كارثة خلفت وراءها الخنادق والأرامل. قبل أن ينتصف القرن، اندلعت الحرب العالمية الثانية، وكانت التكلفة ستين مليوناً من الضحايا. وبذلك أهدر العقل الحياة ولم يحافظ عليها.
كانت الرومانسية أرحم، فالشبان المنتحرون لم يشكلوا أكثر من رقم بالعشرات. طموحات العقل دمرت العقل نفسه، ولم تُجدِ إلا باصطناع دفاعات تبرر الجشع، غير أنها ستستدعي تعليلاً آخر؛ فالحروب ليست وليدة القرن العشرين، بل مارستها الإنسانية منذ عشرات آلاف السنين، وكانت من ابتكار الحياة نفسها لإحلال التوازن بين عدد السكان ومصادر الغذاء؛ إنها منطقية، ويمكن فهمها، بحسب وجهة النظر هذه.
كان أكثر ما بوسع العقل فعله هو السيطرة على الحرب، وليس إلغاءها. القرار العقلاني الذي اتفقت عليه "الدولتان الأعظم" اللتان خرجتا منتصرتين من الحرب، هو تبريد الصراع بينهما في العقود القادمة، فكانت الحرب الباردة التي شملت كافة مناحي الحياة، الاقتصادية والسياسية والعلمية والعقائدية.. بحيث أصبح التسابق إلى التسلّح بديلاً عن تراشق النيران. أما الحرب التي لا يمكن تجنبها، مهما بلغت برودتها، فاتخذت مسارحها على أراضي الآخرين، واستعادت سخونتها بالوكالة.
بدأت الحرب الباردة عام 1945 وانتهت بانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي. اعتقد البشر أن العقد الأخير من القرن سيكون تهيئة للولوج إلى القرن الواحد والعشرين، ويبشّر بعالم بلا حروب ساخنة أو باردة، لكن الإنسانية بحسب النظرية السابقة في التوازن، أدركها عدم التوازن. ثمة خلل في بلاد الإسلام والعرب، فكان لا بد من الحروب الإقليمية لاستعادة التوازن على أن تكون بإشراف الغرب، الذي اكتوى بها وترفّع عنها، لكنه سيقود خطواتها.
الخلل كان في الفراغ: بلاد بلا أيديولوجيا، ولا قومية، ولا تنمية، تشكو من النقصان، بينما الحياة تأبى الفراغ؛ فكان لا بد من التوازن. لكن على غير المتوقع عاد الإسلام، ليملأ الفراغ. عاد وكأنه صحا من النوم، مدججاً بالسلاح، ومطالباً بالشريعة والخلافة، يكفّر مخالفيه ويهدر دماءهم، حتى بات لا يشبه نفسه، وحتى أن المسلمين لم يتعرفوا على أنفسهم فيه. كان خدعة؛ لم يكن الإسلام.. والتوازن المنشود لم يحدث.