في كتابه "الطريق من باريس إلى القدس" (ترجمة مي عبد الكريم محمود)، لا يرسم الكاتب الفرنسي شاتوبريان خطاً جغرافياً للرحلة الاستكشافية التي يسير فيها من باريس إلى القدس، بل خطاً أيديولوجياً بحيث يعيد المدن المعمورة التي يتجوّل فيها، في الشرق، أو الأماكن الأثرية، إلى العصور القديمة التي كانت عليها، فلم يرَ في الأردن، كما يقول تودوروف، نهراً، وإنما عصوراً تاريخية مثيرة، ولم يرَ في القدس، مدينة حية، وإنما وقائع سرد تاريخي.
وقبل أن تطأ قدمه أرض فلسطين (يسميها البلاد الأكثر بربرية)، فإنه يتذكر أسلافه من "الزوّار" الذين يصفهم بالحجّاج، من الفرسان الذين قادوا الحملات الصليبية، كأن ما يراه ليس سوى نسخة النيغاتيف التي استلّها من التوراة، أو من تاريخ أوروبا، معلناً كآبته من تسلل الحاضر إلى الماضي، أي من وجود هذه المنازل وتلك البيوت والمدن التي يعمّرها بشر لا يشبهون السرد المقدس الذي رحل من أجل استعادته إلى الذاكرة المؤمنة، في الأرض المتخيلة.
اللافت أن كتاب "الطريق" قد ترجم ضمن سلسلة بالعربية حملت اسم "البحث عن الشرق"، في حين أنه لم يقصد شرقاً تظهر فيه أي علامة "شرقية".
في المقابل، يكتب الرحالة العربي أحمد بن فضلان رسالة عن رحلته التي قام بها بتكليف من الخليفة العباسي المقتدر بالله، وهي المعروفة باسم "رسالة ابن فضلان" ولها عنوان فرعي هو "في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة".
وإذا ما تجاهلنا انتساب الرحلة إلى الجهد التبشيري، (بل إن محقق الكتاب، الدكتور سامي الدهان، يرى أن رحلة ابن فضلان يمكن أن تندرج في سياق الجاسوسية)، وهو جهد تنفذه الإمبراطوريات في أزمنة القوة، لأغراض دينية ودنيوية، فإن خط سير ابن فضلان يشبه خط سير شاتوبريان الأيديولوجي، وقد رسم لأهل البلاد التي سافر إليها رسماً غريباً، إذ شبّه سلوك الروس مثلاً بسلوك الدواب الضالة، وصوّر "وحشية" أهل خوارزم، وذكر أن لغتهم تشبه صياح الزرازير، فيما كان قد قال في صفحة أخرى إن لغة إحدى القرى في البلاد ذاتها تشبه نقيق الضفادع.
وفي كلا الاتجاهين يمكننا تلمّس أشكالٍ متشابهة لما هو عنصري، على الرغم من تباعد المسافات الزمنية والجغرافية. إذ إن النزعة العنصرية لا تستطيع القفز فوق سماتها التي تأخذ شكل الحقد أو الازدراء الذي يوبّخ الغرباء أو المختلفين، أو ينفر من صفاتهم: لون بشرتهم، أو بنية لغتهم، أو أنماط السلوك التي يتبعونها في حياتهم، أو في عباداتهم، بعد أن يطلق عليهم صفة "البرابرة"، ما يفسح المجال أمام أحد أمرين: إما الترحيل والطرد، أو القتل والإبادة. بعد أن تستكمل ثقافة التخويف منهم.
لكن ماذا لو لم يكونوا كذلك؟ ماذا لو لم يأتوا أيضاً؟ كما في قصيدة الشاعر اليوناني كفافيس: "فقد هيأ الجميع أنفسهم لمجيئهم، غير أن البرابرة لم يأتوا، فما العمل؟ ما الذي سيحل بنا بلا برابرة؟ لقد كانوا نوعاً من الحل".