كرة القدم هي الشيء الوحيد الذي يجمع الليبيين اليوم، ويزيح جانباً خلافاتهم التي وصلت إلى حد القتل. فما إن تكون هناك مباراة للفريق الوطني، حتى تتوقف الحياة في البلاد، وتحدث هدنة تلقائية في كل جبهات القتال، كهدنة القات في حروب اليمن، ويتسمّر الجميع أمام الشاشات قلباً واحداً، وإذا ما فاز الفريق، تمتلئ الشوارع تلقائياً بالناس المحتفلة، صحبة عائلاتهم.
ألعاب نارية في الفضاء، ورصاص حي بمختلف الأسلحة يوجّه إلى السماء، مشاريب وحلويات توزّع مجاناً، وقناني ماء زهر ترشّ على المحتفلين. الجميع يغني "ليبيا.. ليبيا.. ليبيا".
وبينما تتناحر القبائل والمدن والمليشيات الليبية في الجبهات من دون رحمة، ها هي تتحد وتتحاب في ميدان الرياضة.
لقد شعر الليبيون بالحزن عندما لوّث المتطرفون ملعب كرة القدم في درنة بالدماء، إذ نفذوا فيه عمليات إعدام بدعوى القصاص بحضور الجمهور. لقد أعادوا إلى الذاكرة سريعاً ما كان يفعله نظام القذافي، عندما كان يعدم أبناء شعبه داخل ملاعب كرة السلّة والطائرة وفي شهر رمضان، كما حدث في مجمع المرحوم سليمان الضراط في بنغازي.
قتْل البشر أمام كرة مُمتلئة بالهواء الحي جريمة كبرى، يحوّل الكرة إلى كتلة دموع، هي صانعة الفرح وخالقة البهجة ومانحة الصحة، ها هي تتفرج على مشاهد مغادرة حياة فرحت بها سابقاً.
كرة القدم تتألم مثلنا، بل تنط محتجة أمام منصّات الإعدام، تحاول إفراغ نفسها أمام أنف مشنوق يحتضر، أو رأس فصلت عن جسدها بسيف جبان.
عندما يفوز الفريق الليبي تمتلئ الشوارع بالبشر، غير مكترثة بالطقس. لا تجد تلك الأثناء سوى الابتسامات والضحكات والعناق بين أناس لا تعرف بعضها شخصياً. كرة مليئة بهواء الحب ربطت بينهم، أنستهم أحزانهم وخلافاتهم، فالحياة عبارة عن نفخة هواء داخل كيس، هذا الهواء سلام وحب وليس حرباً ودماراً.
يقول صديقي قيس الذي يتصفح كتاب "كرة القدم بين الشمس والظل"، لكاتب الأوروغواي إدواردو غاليانو، لا أدري مازحاً أم جاداً: "ليت تحكمنا حالياً كرة، لو قدمت الكرة نفسها للانتخابات فسوف يصوت لها الشعب كله.. فكرة الهواء ليست ككرة الدماء".
بعد مباراة نهائية على كأس أفريقيا مع غانا، فاز فيها الفريق الليبي، حيث وصلت فرحة الشعب إلى ذروتها، التقيت بالشاعر خالد مطاوع، فسألته عن مشاعره نحو الفريق الوطني، وكيف نجحت الكرة في إسعاد الشعب بينما فشلت السياسة فأجاب: "الفريق الوطني أبرز وأجمل ما في ليبيا، فقد أظهر هؤلاء الشباب روح وتفانٍ وتعاون وانضباط، لا نراه في حياتنا عامة".
في فريق الكرة الوطني لا فرق بين شرقاوي ولا غرباوي ولا زنتاني ولا مصراتي ولا سرتاوي ولا تباوي ولا أمازيغي ولا عبيدي ولا عقوري إلا بالقدرة على اللعب، وكذلك على اللعب الجماعي، الذي يفيد الفريق. أمام الفريق الوطني كلنا، كليبيين، نريد له الفوز، ونريد اللاعب الأفضل في المكان الذي يليق به.
وعن مدى النجاح في استثمار مثل هذه الانتصارات سياسياً، يواصل مطاوع: "للأسف، إن انتصارات الفريق الوطني وغيرها من الإنجازات الرياضية الليبية منذ إسقاط القذافي لم يتم استثمارها لتأجيج الروح الوطنية. من يدرسون تاريخ الدول في القرن العشرين، يدركون أن الرياضة وما تكوّنه من لحظات متزامنة من التلاحم والتماهي لعبت دوراً كبيراً في تكوين الروح الوطنية بين الشعوب، والانتصارات وحتى الانتكاسات الرياضية كانت محطات في نمو الهوية الوطنية لشعوب كثيرة، مثل ألمانيا والأوروغواي والبرازيل".
أغادر مطاوع لأجد نفسي وسط زحمة شباب يغنون المرسكاوي (تراث ليبي) الذي يحتفي بالكرة الليبية، وأيضاً يستدعي هزائمها المرّة وانتكاساتها، شاب يغني: "سمراء طويلة مثل حارس غانا.. أخذ كاسنا وأنت غلاك (حبك) خذانا".
يعود بنا من خلال الأغنية إلى طرابلس عام 1982، بطولة أفريقيا، كنت هناك في المباراة النهائية بين ليبيا وغانا. تفوز غانا بركلات الترجيح على أرضنا، وتفرّ بالكأس إلى أكرا. نبكي كثيراً، لكن التاريخ يعيد نفسه، فبعد 32 عاماً ينجح المنتخب الليبي في الثأر والفوز على غانا بركلات الترجيح أيضاً، ويقتنص الكأس ليعود به إلى ليبيا.
(بنغازي)