صباح أمس الأربعاء، رحل عن عالمنا من يمكن وصفه بحق كأحد "رواد السينما السورية". نبيل المالح؛ صاحب ما يزيد عن مئة وخمسين فيلماً بين روائي ووثائقي وقصير. في جعبته أيضاً ثمانية عقود اختلطت وتفاعلت بسير البلاد وبتواريخها التي عايشها بمواقفه وبكاميرته.
نشأ المالح (1936 - 2016) في حقبة استثنائية في التاريخ السوري. اعتقل ابن الثالثة عشرة في نهاية الأربعينيات بسبب مشاركته في الحراك المشتعل الذي كانت تعيشه العاصمة دمشق، كما اعتقل بسبب الرسوم الكاريكاتورية التي كان ينشرها في الصحافة آنذاك. تربّى صاحب كتاب "سر المسرح" (1968) في فضاء تتسيّده النقاشات والمظاهرات التي كان يختبر فيها السوريون مفاهيم، عقب استقلالهم، عن البلاد والحرية والديمقراطية والمواطنة.
أثناء الوحدة بين سورية ومصر، كان المالح يدرس السينما في براغ، فسحبت الجنسية السورية منه بسبب تقرير أمني، وسرعان ما اعتقل عند عودته بعد الانفصال. دائماً ما يقترن اسم المالح بفيلمه "الفهد"، الذي يعد علامة فارقة في السينما السورية، كما يعتبر أول فيلم روائي سوري طويل، إضافة إلى منع الرقابة تصويره عام 1968 بسبب "تشجيعه على التمرد الفردي"، ليعود السينمائي السوري وينجزه بعدها في عام 1972.
منذ البداية، لم يرد المالح رفع السقف الرقابي فقط، بل أراد أن يهمّشه، لذلك أصر أن تظهر الممثلة إغراء عارية في أحد مشاهد أفلامه؛ اللقطة التي أعيد حذفها بعد سنوات خمس. وفي السياق السابق نفسه، لم يبحث المالح عن نجم ليلعب بطولة فيلمه، فذهب إلى المسارح الهامشية، ليقع اختياره على الممثل الفلسطيني السوري أديب قدورة، وهذا ما يحمل دلالة كبيرة.
رويداً رويداً، بدأت تتضح معالم فلسفته السينمائية خلال أفلام السبعينيات "رجال تحت الشمس" (1970) والفيلم التسجيلي "نابالم" (1971) و"السيد التقدمي" (1975) وفيلم "بقايا صور" (1980). قبل أن يكون المنفى خياره الشخصي في بداية عقد الثمانينيات احتجاجاً على ضربه من قبل أحد العساكر أمام وزارة الداخلية في دمشق.
انكب المالح في منفاه على كتابة سيناريو فيلمه الأشهر "كومبارس" الذي عاد وأخرجه بعدها وتعرّفت معه السينما السورية على أسلوب لافت في إدارة الممثل. استطاع صاحب "بقايا صور" أن يقدّم بسام كوسا وسمر سامي بأبهى صورهما، بل إن ممثلاً كعبد المنعم عمايري عاش طويلاً على تقليد شخصية البطل في الكومبارس لسنوات عديدة في أدواره التلفزيونية اللاحقة.
أما على صعيد المضمون، فإن بطلي "كومبارس" (1992)، ينتميان إلى الهامش السوري، إلى مجموعة كبيرة من الشخصيات التي أراد المالح أن يقدّمها وهي تناضل من أجل الحب ومن أجل حريتها الشخصية في فضاء يطحن أبناءه يوماً بعد الآخر.
هكذا، عثرنا على ميزة في أفلام المالح قلّ نظيرها في السينما السورية وهي انعدام النرجسية التي نراها في سينما المؤلّف السورية، والتي كان أصحابها يخفون بها أبطالهم فيظهر الممثل أداة يحرّكها المخرج كيفما أراد مرة، ومرة أخرى شخصية منفلتة تتسم بالسذاجة التي تجلب الضحك المجاني.
إلى جانب رصيده السينمائي الكبير، كان المالح من أشد المدافعين عن قيم المواطنة وحرية التعبير في البلاد التي تدار من قبل أجهزة المخابرات. لم تكن لحظة الثورة السورية مربكة بالمعنى الأخلاقي لصوت طالما اتسم بالعلو، لكنها كانت دافعاً ومحفزاً له ليقضي، في مكان إقامته في دبي، جلّ وقته في كتابة مشاريع أفلامِ عن الراهن السوري. لا بد من يوم قادم، نرى فيه ماذا كتب المالح بعد 2011، ونعرف ماذا حل بأبطاله، التي تشبهه كثيراً، ربما إلى درجة التطابق.
اقرأ أيضاً: أبو عبدو خارج المكان والأيديولوجيا