يحاول جارموش تصوير ما يستحيل تصويره، تلك اللحظات المنفلتة التي تختمر فيها القصيدة في مخيلة الشاعر. تقترب الكاميرا من سائق الباص وهو يسوق شارد الذهن بينما أصداء أحاديث الركاب تختلط بجمل أخرى كان يحاول تركيبها في ذهنه وفجأة تظهر الصيغة الأولى للقصيدة على زجاج الباص الأمامي.
الفيلم الثاني هو "نيرودا" للمخرج التشيلي بابلو لاران، حيث يتخيل المخرج مطاردة سريالية بين الشاعر ومفتش شرطة يكاد يكون هو نفسه شاعراً. وخلال لعبة المطاردة نكتشف نيرودا آخر، نرجسي يحبّ الشهرة وأرستقراطي يجمع بين المجون والثورة وفوضوي هدام يسخر من كل شيء.
في "باترسون" نرى الشاعر في صورة زوج نحيل ومطواع لا يفكر في نشر قصائده ويعيش في حالة انخطاف دائمة، متلعثماً وسط روتين يومي لا شيء فيه يدعو إلى الشعر. وفي "نيرودا" نرى الشاعر في صورة ثور هائج حاضراً بجسمه البدين يصرخ ويعربد ويزمجر منغمساً في معركة حسية مع الحياة.
وإن كنا أمام فيلمين عن الشعر بمقاربتين مختلفتين، إلا أن كلاهما يظهر بالصورة والصوت أن السينما بطبيعتها تنجر وراء مغناطيس معدنها الأصلي وتستلهم الشعر وتتماهى معه وتميل إليه إلى أن يصير الفيلم نفسه قصيدة، وهي بهذا تحقق ذاتها أكثر مما تفعل مع الرواية بخلاف الفكرة الشائعة.