خلال "مهرجان مديين" الشعري في كولومبيا هذا العام، تعرّفت إلى الشاعر الكوبي إدوارد إينثينا. التقينا مرات عديدة في مصعد الفندق وتبادلنا التحية دون أن يجرؤ أحد على اقتحام الآخر، كان هو غالبا ما يرافق مواطنه المغني المؤلف بوليتو إيبانييث، لم تكن هناك برمجة لأي قراءات تجمعنا ما عدا في حفلي الافتتاح والختام.
لكنه حضر في اليوم الثالث للمهرجان ندوة كنت قد ساهمت فيها رفقة الشاعر الكولومبي مارتن كروث أحد قادة الفارك "القوات المسلحة الثورية الكولومبية" الذي تحدث عن تجربته في الكتابة من الخندق باعتباره مقاتلا، كما ساهم الشاعر المكسيكي ناتاليو هيرنانديث المنتمي إلى الشعب النهواتي (أحد الشعوب الأصلية في المكسيك) والذي تحدث عن تجربة الكتابة لديه باعتباره صوتا للشعب النهواتي، ولكنه تحدث أساسا عن العمل الذي تم القيام به لأجل تأسيس المهرجان العالمي للشعوب الأصلية.
وكنتُ من جانبي قد تحدثتُ في الندوة عن الكتابة الشعرية وتجربة الحدود، وقد أثارت المداخلة أسئلة لدى إدوارد إينثينا، وفضل أن نتحاور بصددها خارج حصار الزمن الذي كان يحيط بالندوة، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار رغبة الجمهور الحاضر في القاعة إثارة قضايا للنقاش، ثم حفل المغني الكوبي بوليتو الذي كان مبرمجا مباشرة بعد الندوة.
التقينا بعد ذلك مرتين، تحدثنا عميقا عن الكتابة والانتماء وعن الهويات المزدوجة، وعن تجربة المنفى، وتجربة الحدود والتجارب الشعرية في كوبا، وعلى الأخص تجربة شعراء مجلة "أوريخينيس" أي "أصول" التي كان قد أطلقها ليثاما ليما رفقة عدد من الشعراء الأساسيين في المشهد الشعري الكوبي مثل ثينتيو فيتيير، غاستون باكيرو، أنطون أروفات، إيليسيو دييغو، بيرخيليو بينييرا، وكان قد نشر في أعدادها المتوالية أسماء مثل: خوان رامون خيمينيث وبيثينتي ألكسندري ولويس ثيرنودا وبول إيلوار وإيمي سيزير وغابرييلا ميسترال وأوكتافيو باث.
كما تحدثنا بشكل مستفيض عن شعراء كوبيين آخرين مثل رينالدو أريناس وسيفيرو ساردوي وروبيرتو فيرنانديث ريتامار ودولثي ماريا لويْنَاث وفينا غارسيا ماروث والشاعر الكوبي ذي الأصول العربية فياض خميس. لاحظت أن إدوارد إينثينا لا يريد للحوار المفتوح بيننا أن يبقى حوار تعارف بين صديقين، بل أراد أن يشرك فيه القراء، فاقترح علي أن يبعث لي أسئلة لأجيبه عنها، وهو ما تم فعلا فقد وجه إليَّ أسئلة دقيقة حاولت أن أثير من خلالها بعض الآراء والقناعات والتساؤلات أيضا، وبعثتُ بها إليه لكن من خلال تواصلي معه لاحقا علمتُ أنه يعاني من متاعب صحية اضطر معها إلى دخول المستشفى.
بعد انقضاء الأسبوع الأول من شهر أيلول/سبتمبر علمت عبر الصحافة وعبر مواقع التواصل الاجتماعي بخبر موته المفاجئ والمفجع وهو لم يتجاوز عامه الرابع والأربعين. أثناء فترة مرضه القصيرة، كتب الإذاعي ألفريدو باييستيروس في الفايسبوك، عن زيارته لـ إينثينا في المستشفى: "عند وصولي لاحظتُ فوق الدرج الجانبي لسريره "مائة عام من العزلة" "عمل يجب العودة إليه دوماً" كما قال لي يوماً، بالإضافة إلى "الغاب المقدس" كتاب يجمع دراسات لـ ت. س. إليوت.
في إحدى قصائد ديوانه الشعري المعنون بـ "الذئبة الحمراء" يقول إينثينا: "الداء خيرٌ"، في أيام القراءة والاستراحة هذه، سيعرف طبعا كيف يستفيد من هذا الوقت، ونحن أصدقاؤه نتمنى له أن يستعيد عافيته بسرعة".
لكن بعد عدة أيام من التوتر والتواصل مع أصدقاء إدوارد إينثينا في سانتياغو، تأكد من خلال بعض الكتابات في شبكات التواصل الاجتماعي ومن خلال الصحف موت الشاعر الكوبي، وقد نعاه بعض أصدقائه وهم يعبرون عن أساهم ومودتهم لشاعر اقتسموا معه إشراقاته الشعرية والنثرية، كما عايشوا استجاباته لنداء الصداقة الراسخ لديه من خلال تلك اللحظات الجميلة التي رافقوه خلالها ذات حياة سريعة لم تخلف سوى أوراق وقصائد وذكريات عميقة.
وكتب صديق إدوارد الكاتب يانسِرْتْ فراغا، أحد أهم كتاب أدب الأطفال في كوبا: "لقد مات الشاعر إدوارد إينثينا، وأنا لست موجودا في الفضاءات التي يجتاحها الآن إعصار إيرما مطلقا العنان لغضبه، لكنه أخذ منا للتو أحد أفضل أبناء الأدب الكوبي. سنتذكره دائما بلقب المامبي (المقاتل الكوبي الثائر في وجه الاستعمار الإسباني)، في بايري مسقط رأسه، يرفع دوما سقف الاجتهاد الفكري في مقهاه المعتاد: مقهى بونابرت، ينظم سنة بعد أخرى أيام مجلة "أوريخينيس"، احتفاء بالكوبي الأكثر كونية بين الجميع (يقصد هنا الشاعر ليثاما ليما)، أو يكافح من أجل إنقاذ (مثلما فعل) النصب التذكاري المتواضع الذي يذكر بأول دفنٍ لرسولٍ في مقبرة ريمانغاناغوا.
لم يتبق شيء نصنعه سوى الصمت، مثل الأسماك، وأن نلتفت برؤوسنا تجاه ميراث مؤلفِ "عالَمِ الأسماك"، إن ذلك الكتاب الجميل المخصص للأطفال يكرِّمُ "جائزة كالينداريو". في توديع هذا الصديق الشاعر الذي يكن مشاعر نبيلة تجاه العرب نقدم هذه الباقة من قصائده.
الحبل السُّري
المرض (مثل الجمال) خيرٌ،
لا أحد يعرفه، لا أحد يراهُ، لا أحد يستحقه،
جدُّ كبيرٍ حَدَّ أننا لا ندركه،
هو للجميع
قطعة من الكون تعيش في داخلي
وليس ثمَّة مهرب منها
عندما تعبر القطارات ملغومةً في انبثاق الفجر.
هي صورةٌ تلحُّ:
عُصاراتٌ هامشية تحاول أن تُفَسِّرَ الجوهر الذي لا أمتلكُه.
لدي سَكينَتان
مَعنَيان
ورَمَانِ
خبزٌ يَصِلُ متأخِّراً.
المرض أحد اختراعاتي
عندما أُفكر في المِصْعَدِ
حيثُ فتحَ عينيْه مع العالم الهارِبِ،
لكنِّي لم أكنِ الشاعر
بل جزءا من الألم،
وهو يخرُجُ من الفم والأنف،
الخوْفُ
المُتطايرُ
لأمِّي.
كنتُ مؤمناً بالرَّبِّ،
كنتُ مؤمناً بالكلماتِ،
كُنتُ جنيناً، قطعة لحمٍ كَارِهَةً لِلكُلَّابِ الأعمى الذِي مَزَّقَها.
"حظٌّ وحقيقةٌ".
قالوا له إنه لا شيءَ لديه في الدَّاخل،
حينَئذٍ عرفتُ أنِّي لمْ أكنْ شيئاً منذُ البداية،
مجرّد ذكرى عنِّي، "صورة"،
خطأ ما، ربما.
■ ■ ■
كلب
إلى ديانا وأرنولد.
بعد ما تزال قطعة الخبز
في فمه،
شيْءٌ فيه
"الشيْءُ الإنسانيُّ"
أوقفه أمامنا.
لا حركةٌ
ولا اليد التي كانت تتودد إليه
استطاعت أن تثيرَ مشاعرَه.
أمسك قطعة الخبز
التي ألقيناها له وهرب.
لكنه ما إن عبر الشارع
حتى شطرته إطارات "كميون" مسرع
إلى قسمين:
خبزٌ ودمٌ.
كونه كلباً
كان أسوأ عدوٍّ واجهه.
■ ■ ■
لكماتٌ تحتَ الحزام
يلجُ العدوُّ الكتابة
تحت نبرةِ عسلِهِ الغامضِ
يخيفنا
ينمو الخنجر في الصمت
مقهى إيزابيليكا المُجذبُ
يسمِّمُ الحواس
سانتياغو على شفاه الحوتِ
تغرقُ في القصيدة
قصيدةٌ-حوتٌ قصيدةٌ-عدوٌّ
تلك الأغصانُ المورقةُ التي تقمعُنا
واقعٌ منحطٌّ من الحواف
بعيدون عن الشرابِ الذي يتجاوزنا
ليس بالجسد وهو يمزِّق كلَّ حدٍّ
وليس مع الخوف الصغير من الشَّبيه
المتصبِّبِ في الوعي دَفقاتٍ
بعيدة عن كلِّ تذَوُّقٍ لا يُفسَّرُ
انتقالٌ نحو المُتعدِّدِ.
لِكُلِّ إيمان يُلَوِّثُ
حديديُّونَ وغرباءُ
هكذا
نحن الصورة دونما سطحٍ آخرَ
الوَاقعُ المنحطُّ مِنَ الحَوافي
غرباء
دَوْماً غرباء
وبعيدون.
بطاقة: ولد إدوارد إينثينا (Eduard Encina) في بايري، قرب سانتياغو دي كوبا عام 1973- وهي نفس المدينة التي رحل منها مؤخراً. شاعر وسارد وفنان تشكيليّ (الصورة) غادر في أوج عطائه بعد أن نشر العديد من الأعمال الشعرية، أهمها: "عن ملاكٍ وضالٍّ"، و"غفرانُ الماء"، و"صمتُ الحيتان"، و"لكماتٌ تحت الحزام" و"الذئبة الحمراء"، نال عدة جوائز شعرية عن بعضها. كما ترك أعمالاً مميزة كتبها للأطفال.