كانت أحداث 2011 في البلاد العربية منعرجاً على أكثر من مستوى، مع تحوّلات سياسية مختلفة وأخرى على الأصعدة الاجتماعية والثقافية. لم يظهر الكثير من المقاربات التنظيرية لهذه التحوّلات، وهو ما يستدعي جهوداً في استضافة أجهزة مفاهيمية تساعد في تفسير ما حدث، من ذلك قراءات المفكّر الفرنسي بول فيريليو (1932 - 2018) الذي جعل من مفهوم السرعة أداة ناجعة لفهم التحوّلات بتطبيقات في مجالات عدّة؛ بدءاً بالمعمار، مجال تخصّصه الأصلي، إلى الفن والبيئة والمعرفة والسلوكات الاجتماعية.
في 2018، صدرت ترجمة أحد أشهر مؤلفاته؛ كتاب "السرعة والسياسة: من ثورة الشارع إلى الحق في الدولة" عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر"، وقد نقله إلى العربية المترجم والباحث التونسي محمد الرحموني. غداً، يجري تقديم الكتاب في فرع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في تونس، عبر قراءة يقدّمها الباحث الأنثروبولوجي التونسي الأمين البوعزيزي.
صدر كتاب "السرعة والسياسة" عام 1977، ومعه بدأ الالتفات إلى أهمية مقاربات فيريليو، فحتى ذلك الوقت أصدر أعمالاً ضمن دائرته البحثية الضيقة، لكنه في هذا العمل فتح الباب أمام حقل أبحاث سمّاه dromologie يقوم على دراسة مفعول السرعة على الحياة الحديثة، وبعد أن يلاحظ انعكاس هذا المفهوم في مجالات مثل الصناعة والنقل، يبيّن أن التسارع الذي نشعر به من خلال تغيّرات تقنية أو قانونية يظلّ في النهاية قراراً سياسياً، وهو ما نجد أثره في كون معظم الفضاءات السياسية مقسّمة بين تقدّميّين ومحافظين، وصولاً إلى قوله بتوظيف السرعة في السياسة أو ما يسمّيه بـ"الدروموقراطية".
بشكل عام، أشار فيريليو في مختلف أعماله إلى أن العقل البشري تغافل عن أثر السرعة في التاريخ، ولم يستفق من هذا الوهم إلا مع أينشتاين ونظريته النسبية في القرن العشرين حين غيّر من التمثّل العلمي للزمن. من هنا أعاد فيريليو قراءة محطات أساسية من التاريخ البشري انطلاقاً من مفهوم السرعة، مثل الثورة الصناعية والحرب العالمية الثانية، لكنه كثيراً ما ينتقد هذا التسارع على خلفية أنه يمحو الزمن، وهو هنا يضرب مثال وسائل النقل التي ربطت مدناً بعيدة فحوّلت السفر من فترة اكتشاف إلى مجرّد مساحة زمنية ثبوتية، ثم جاءت تكنولوجيا التواصل الحديثة لتتيح إمكانية الاستغناء عن السفر تماماً.
استحضار هذه الزاوية التي قارب بها فيريليو العالم، ربما يتيح قراءات خصبة في أحداث تعرفها منطقتنا، ومنها يمكن أن نفهم كيف تتشكّل منعرجات تاريخية، وأي خلفيات تجعلها تتحرّك في هذا الاتجاه أو ذاك.