تضع الكلفة الضخمة للحرب الروسية على أوكرانيا الاقتصادات الأوروبية في ورطة حقيقية، حيث يرتفع الدولار إلى أعلى مستوياته منذ العام 2020، بينما يتراجع اليورو إلى قرابة دولار واحد في وقت لا يستطيع فيه البنك المركزي الأوروبي رفع سعر الفائدة المصرفية خوفاً من الوقوع في حفرة التضخم. وحسب بيانات يورو ستات بلغ معدل التضخم في منطقة اليورو 7.5%، وهو أعلى معدل تشهده أوروبا.
وحسب مراقبين، هذا وضع خطر بالنسبة للاقتصادات الأوروبية التي لم تتعاف بعد من جائحة كورونا وأزمة ديون اليورو التي ضربتها في العقد الماضي وأدت إلى إفلاس اليونان وكادت أن تفلس العديد من البنوك. ولا يستبعد محللون أن يقود ضعف الاقتصادات الأوروبية إلى هروب الاستثمارات من دول الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة بسبب البحث عن العوائد في العملات القوية وعلى رأسها الدولار.
ويضاف إلى عامل تراجع سعر صرف الدولار، عامل عدم اليقين في المستقبل الذي يتفاعل مع الحرب الروسية الشرسة الرامية لاحتلال أوكرانيا أوعلى الأقل أجزاء منها وطموحات الرئيس فلاديمير بوتين في التوسع الجغرافي في دول أوروبا الشرقية.
وهذه التفاعلات الجيوسياسية الكبيرة ترفع من مخاطر المستثمرين الأجانب في أدوات الدين الأوروبية وعلى رأسها السندات السيادية التي تعتمد عليها الحكومات في تمويل الإنفاق بالميزانيات. ويلاحظ أن الحرب الروسية في أوكرانيا رفعت كذلك من ميزانيات الدفاع في دول المجموعة الأوروبية، وتخطط ألمانيا لتحديث جيشها بنحو تريليون دولار.
بسبب هذه المخاوف يتوقع الخبير الاستثماري بشركة "آموندي"، فينستا مورتيز، أن "البنك المركزي الأوروبي سيمنح أولوية للحفاظ على كلف الافتراض المنخفضة لمساعدة الدول بدلاً من رفع الفائدة المصرفية لمكافحة التضخم". وقال مورتيز في تعليقات نقلتها صحيفة "فايننشيال تايمز" إن مثل هذه السياسة النقدية ربما تدفع سعر صرف اليورو إلى مواصلة التراجع مقابل الدولار خلال الشهور المقبلة".
من جانبه يتوقع الاقتصادي الأماني هولغر شيميدنغ في مذكرة يوم الجمعة الماضي، أن مخاطر انكماش الاقتصاد الأوروبي في النصف الثاني باتت أكثر احتمالاً". ويقول شيميدينغ في مذكرته" عمليات الإغلاق الجارية للاقتصادي الصيني والإنفاق الحذر من قبل المستهلكين في أوروبا بسبب ارتفاع فواتير الطاقة والغذاء ستقود بسهولة إلى وقوع الاقتصاد الأوروبي في هاوية الركود".
ووسط احتمالات الركود الاقتصادي المرتفعة من غير المستبعد أن يتراجع صرف اليورو مقابل العملة الأميركية إلى أقل من دولار واحد إذا امتد أمد الحرب الأوكرانية إلى أبعد من الصيف المقبل. ويلاحظ أن مؤشر الدولار ارتفع في تعاملات الخميس إلى أعلى مستوياته منذ ديسمبر/ كانون الأول 2002، مع انخفاض عائد سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات.
ومن المتوقع أن يرتفع الدولار أكثر ويضغط على سعر صرف اليورو مع تراجع بيانات التضخم التي ظهرت أمس الخميس. وعادة ما يعني تراجع عائد السندات الأميركية أجل عشر سنوات زيادة مشترياتها من قبل الأجانب والمصارف الاستثمارية الكبرى.
على صعيد مسار الاقتصاد الأوروبي في هذه الظروف الجيوسياسية، يقول المستشار الاقتصادي لمنطقة اليورو، بيتر بوكفار، في مذكرة يوم الإثنين: "بات من الواضح أن منطقة اليورو دخلت مرحلة الركود الاقتصادي".
في ذات الشأن، يقول الرئيس التنفيذي لشركة بوش الألمانية، ستيفن هارتنغ، في تعليقات لقناة "سي أن بي سي" الأميركية: "أوروبا تتجه نحو الركود الكبير". ويقدر خبراء كلفة الحرب الأوكرانية على أوروبا بأكثر من تريليوني دولار.
وهذا يضيف أعباء مالية ضخمة إلى ميزانيات الدول الأوروبية ويرفع من كلف الاستدانة التي يجب ان تحصل عليها دول المجموعة الأوروبية خلال العام المالي الجاري. وتعاني دول الاتحاد الأوروبي الـ27 ودول منطقة اليورو الـ19 من أزمة ارتفاع الديون السيادية، حيث بلغت ديون الكتلة الأوروبية كنسبة من إجمالي الناتج المحلي نحو 88.1% حسب بيانات يورو ستات.
ولكن في مقابل هذه التوقعات المتشائمة لليورو، هناك توقعات متفائلة باحتمال أن يغير البنك المركزي الأوروبي من سياسته النقدية الحالية ويلجأ لسياسة رفع الفائدة ودعم سعر صرف اليورو. ويقول مصرفيون إن هناك توجهاً داخل المركزي الأوروبي لرفع الفائدة على اليورو وربما في شهر يوليو/ تموز المقبل. في هذا الصدد يتوقع المصرفي فالنتين مارينوف في تعليقات نقلها موقع "ستيرلنغ باوند" البريطاني، أن "المركزي الأوروبي بات يحبذ اليورو القوي وان نهاية الفائدة السالبة ستدعم ذلك".
من جانبه، يقول مصرف "كريدي أغريكول" الفرنسي في تحليل إن الجنيه الإسترليني تم بيعه بكثافة خلال الأسابيع الماضية وإنه سينتعش مقابل العملة الأوروبية.
وكانت تداعيات قوة الدولار حتى العام الماضي تؤثر بشكل مباشر على الاقتصادات الناشئة ولكن بسبب تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعياتها السالبة على اقتصادات القارة العجوز، فإن الدولار القوي بات يهدد الاستثمار في أوروبا ويضرب سعر صرف اليورو وبالتالي يرلفع من مخاطر مشتريات المستثمرين الأجانب لسندات الديون السيادية بالقارة، خاصة سندات دول شرقي أوروبا التي باتت تقع مباشرة تحت نيران المدافع الروسية.