التركّز والفساد يهزمان لبنان في الحرب التكنولوجية

27 سبتمبر 2024
عناصر حزب الله يحملون أجهزة لاسلكية في ضاحية بيروت، 22 سبتمبر 2024 (حسام شبارو/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تحول الأجهزة التكنولوجية إلى أدوات حرب: حزب الله في لبنان استخدم أجهزة النداء واللاسلكي كقنابل، وإسرائيل استخدمت تكنولوجيا المراقبة لتتبع قيادات الحزب، مما أدى إلى مجزرة في الضاحية الجنوبية لبيروت.
- استثمارات ضخمة في التكنولوجيا الدفاعية: شركات رأس المال الاستثماري الأميركية استثمرت 100 مليار دولار في التكنولوجيا الدفاعية بين 2021 و2023، مع عقود ضخمة لشركات مثل مايكروسوفت وأمازون.
- التخلف التكنولوجي في لبنان: لبنان يعاني من تخلف تكنولوجي كبير بسبب الفساد وانهيار البنية التحتية، مما يعوق تقدمه ويجعله غير قادر على المنافسة في الحروب التكنولوجية المستقبلية.

فجأة تحولت أجهزة النداء (بيجر) التي تستخدم في المطاعم والمستشفيات، وأجهزة اللاسلكي القديمة المنسية، إلى قنابل متنقلة بيد آلاف العناصر التابعين لحزب الله في لبنان. وبعد يومين داميين الثلاثاء والأربعاء الماضيين، انتهيا بقتل 37 شخصاً وجرح 2931، وفق وزارة الصحة اللبنانية، استطاعت إسرائيل تتبع قيادات حزب الله يوم الجمعة الماضي، ومعرفة مكان اجتماعهم في الضاحية الجنوبية لبيروت، مرتكبة مجزرة أدت لقتل حوالي 51 شخصاً، غالبيتهم من المدنيين، وجرح العشرات، فيما يبقى 10 أشخاص في عداد المفقودين.

وسبقت هذه الأحداث، عمليات اغتيال دقيقة طاولت عناصر حزب الله في البيوت وعلى الطرقات، فيما تلعب تكنولوجيا المراقبة الإلكترونية الإسرائيلية دوراً حيوياً في غالبية هذه الهجمات. وقال الجيش الإسرائيلي، وفق تقرير لوكالة "رويترز"، إن لديه كاميرات مراقبة أمنية وأنظمة استشعار عن بعد على المناطق التي ينشط فيها حزب الله، وإنه يرسل بانتظام طائرات استطلاع مسيّرة عبر الحدود للتجسس على خصمه.

في الواقع، فإن سباق تسلّح الذكاء الاصطناعي العالمي سيحدد مستقبل الجغرافيا السياسية والهيمنة الاقتصادية العالمية المقبلة، والرابحون في الحروب المقبلة معروفون مسبقاً.

وقد أصبحت الطائرات المسيرة المطورة تكنولوجيا، إضافة إلى تتبع الاتصالات، والتفجير عن بعد، من الأدوات المستخدمة بكثرة في عمليات الاغتيال خلال الثلاثة عقود الأخيرة، إلا أن عملية البيجر تعتبر الأولى من نوعها في التاريخ، من حيث الاغتيال الجماعي محدد الأهداف، ويمكن اعتبارها البداية البدائية للحروب التكنولوجية المقبلة، من خلال أدوات وخطط مركّزة بيد عدد قليل من الدول، وإسرائيل على رأسها.

وضخت شركات رأس المال الاستثماري الأميركية ما يقرب من 100 مليار دولار في شركات ناشئة في مجال التكنولوجيا الدفاعية في الفترة من 2021 إلى 2023، وهو مبلغ أعلى بنسبة 40% من السنوات السبع السابقة مجتمعة، وفق التقرير الأخير لمعهد واتسون في تقريره "كيف تعمل شركات التكنولوجيا الكبرى ووادي السيليكون على تحويل المجمع الصناعي العسكري" المنشور في إبريل/ نيسان 2024.

لا بل إن وكالات الاستخبارات الأميركية منحت 28 مليار دولار لشركة مايكروسوفت وأمازون وألفابت (الشركة الأم لغوغل) بين عامي 2018 و2022، ومن المرجح أن تكون القيمة الفعلية لعقود البنتاغون ومجتمع الاستخبارات الأميركي (اتحاد يضم 16 وكالة حكومية فيدرالية أميركية منفصلة) أعلى بكثير، حيث إن "العديد من أكبر العقود المعروفة لوزارة الدفاع ومجتمع الاستخبارات مع شركات التكنولوجيا الأميركية سرية ومحظورة من قواعد بيانات المشتريات العامة"، بحسب المعهد ذاته.

وعملياً، تمثل الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف 63% من الإنفاق العالمي على التكنولوجيا العسكرية والتدريب، وفق بحث نشرته جامعة إنديانا في عام 2020.
وتعمل شركات المقاولات الدفاعية الكبيرة والصغيرة في صناعة التكنولوجيا، فضلاً عن رأس المال الاستثماري الخاص، على تحويل الاقتصاد السياسي للحرب إلى اتجاهات جديدة. فقد كانت الصناعة التكنولوجية أساسية في تطوّر نمط الحروب، وجعلها أكثر فتكاً ورعباً.

وأطلق على الحرب العالمية الأولى مثلاً تسمية "حرب الكيميائيين"، حين جرى تطوير أربعة أنواع رئيسية من الغازات خلال الحرب: الغاز المسيل للدموع، والكلور، والفوسجين، وغاز الخردل، وأصبح كل منها أكثر فعالية مع استمرار الحرب، من خلال التكنولوجيا التي استخدمت وشملت تصنيع الغاز، ونشره بطريقة منهجية، تسببت في إصابات جماعية. ولعبت التكنولوجيا دوراً حاسماً في الحرب العالمية الثانية، حيث أسهمت في تطوير أسلحة واستراتيجيات جديدة غيّرت مجرى الحرب. على سبيل المثال، أدى استخدام الرادار وأنظمة تصويب القنابل إلى تغيير جذري في أساليب القتال الجوي. وفق دراسة نشرت في عام 2011 بعنوان "تكنولوجيا الحرب العالمية الثانية التي غيرت الحرب".

سباق تسلّح الذكاء الاصطناعي العالمي سيحدد مستقبل الجغرافيا السياسية والهيمنة الاقتصادية العالمية المقبلة، والرابحون في الحروب المقبلة معروفون مسبقاً.

فيما أصبحت الهجمات باستخدام الطائرات بدون طيار والمراقبة الجوية المتقدمة التي تعتمد على تكنولوجيا التوجيه عن بُعد مشهداً جديداً في الحروب، ولبنان وفلسطين مسرح تجارب موسّع حالياً لهذا النوع من التكنولوجيا الحربية. هذا إضافة إلى ازدياد دقة الهجمات الإلكترونية، واتساع رقعة أضرارها، وكان أقربها فيروس "ستوكسنت" الذي جرى توجيهه نحو برنامج إيران النووي عام 2010، فعطل أجهزة الطرد المركزي في المنشآت النووية هناك. وقال تقرير لوكالة رويترز إن حزب الله بدأ يشتبه في أن إسرائيل تستهدف مقاتليه، عبر تتبع هواتفهم المحمولة وكاميرات المراقبة المثبتة على المباني في البلدات الحدودية.

في الواقع، تمتلك إسرائيل جيشاً موازياً من العاملين في التكنولوجيا المتطورة، ومنذ بدء الحرب على غزة، فإن 28 ألف موظف في شركات التكنولوجيا الفائقة المحلية والدولية العاملة في إسرائيل تركوا وظائفهم للالتحاق بالجيش التكنولوجي الإسرائيلي على الجبهة الحربية، وغالبية هؤلاء كانوا موجودين في مواقع وظيفية متقدمة في شركاتهم، ما يعني امتلاكهم خبرات واسعة.

أما لبنان فيأتي في المرتبة الـ92 في مؤشر الابتكار العالمي 2023 الذي يضم 132 دولة، وفي المرتبة الـ125 في تقييم المؤسسات، والـ96 في البنية التحتية والمخرجات الإبداعية، والـ86 في مخرجات المعرفة والتكنولوجيا، والـ96 في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والـ87 في الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والـ112 في البنية الأساسية التكنولوجية العامة.

ومن دون إنكار تأثير هيمنة الدول الكبرى على البنية التكنولوجية العالمية، وتركّز الشركات الأكثر تأثيراً في قلة من الدول، بينها الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أنه لا يمكن تخطي كذلك التأثيرات المحلية على التخلف التكنولوجي في لبنان، وهذه التأثيرات تتمثل بالفساد العميق الذي يضرب البنية الاقتصادية اللبنانية، وخاصة تلك التي تشكل أساس التقدم التكنولوجي.

حين التحدث عن البنية التحتية اللازمة لتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، يظهر كيف أن لبنان يعيش منذ انتهاء الحرب الأهلية في مطلع التسعينيات من دون كهرباء منتظمة، مع سيطرة الصفقات والفساد على القطاع الذي كلّف لبنان أكثر من 130 مليار دولار من السرقات والمشاريع الفاشلة على مدى السنوات الماضية. أما سرعة الإنترنت وتغطيته، فتندرجان في الخانة نفسها للفساد المتراكم، وسط ترهل البنية التحتية، خاصة ما بعد انكشاف الأزمة المالية في عام 2019. ومع بدء الأزمة الأخيرة هذه، تراجع حجم المشاريع المرتبطة بالبنية التحتية، وتدهور وضع الكهرباء، ليصل إمداد الدولة لما يقل عن 3 ساعات يومياً.

لبنان يأتي في المرتبة الـ92 في مؤشر الابتكار العالمي 2023 الذي يضم 132 دولة، وفي المرتبة الـ125 في تقييم المؤسسات، والـ96 في البنية التحتية

وبطبيعة الحال، فإن أزمة عام 2019 التي جرت خلالها أكبر عملية نهب منظم لودائع المصارف، أدت إلى انهيار الليرة، وتوقف آلاف المشاريع، وسط ارتفاع عدد المهاجرين، وغالبيتهم من الفئة الشابة، في 2023 وحده إلى 180 ألف مهاجر، مقابل 59 ألفاً في عام 2022، وهي أعلى موجة للهجرة في تاريخ لبنان. وطبعاً مع غياب المؤسسات الرسمية الفاعلة، وعدم وجود رئيس للجمهورية ولا رئيس للحكومة، ومع أزمة الثقة الكبرى في القضاء التي تعززت بعد منع المحاكمات، إثر انفجار بيروت، لا مكان للحديث عن استثمارات بشكل عام، والتكنولوجية منها بشكل خاص.

لبنان هو من الدول المهزومة مسبقاً في الحروب التكنولوجية، بعدما نُهب وجرى تفقير شعبه وتقسيمه وترويعه على يد المافيات والميلشيات التي أضعفت اقتصاده ومؤسساته وبنية الدولة فيه، وأجبرت أي عقل قد ينتج أو يفكر أو يحلم أو يطالب ببلد متطور، أن يهاجر، أو أن ييأس، أو أن يلتحق بالأحزاب، أو أن يلتحق بجيش ضخم من العاطلين عن العمل.