عطست الليرة التركية فأصيب الاقتصاد التركي بالزكام، بعدما فقدت 17% من قيمتها ليل أمس الأحد، قبل أن تبدأ بالتعافي التدريجي صبيحة اليوم الاثنين، لتعطي مؤشرات لمن يهمهم الأمر، إنْ بالداخل التركي، قبل يوم واحد من إعلان تركيا مفاجآت برنامجها الاقتصادي الجديد، والوعود بتحولها لواحدة من أهم مراكز الإنتاج بالعالم، وتقول للساسة بأنقرة إن معاكسة قوانين الاقتصاد تشبه معاكسة قوانين الطبيعة.
فزيادة العرض على سبيل المثال، ستوصل لكسر الأسعار لا محالة، وهذا قانون قلما يطاوله الشذوذ، ومثله تبديل محافظي المصرف المركزي وتدخل الساسة بالاقتصاد سيؤدي أيضاً، لا محالة، إلى تذبذب أسعار الصرف وتشكيك رؤوس الأموال والمستثمرين بمناخ البلد الاستثماري، فاحترام قوانين الاقتصاد يجنب البلاد الركود والتضخم وهبوط سعر العملة.. والعكس صحيح.
ورسائل أخرى، في المقابل، للمراقب الخارجي، أن سعر صرف الليرة تأثر بقرارات سياسية، لكنها تتكئ بالوقت نفسه على اقتصاد قوي واحتياطي نقدي وذهب هائلين، ويمكن للساسة الذين يؤثرون تطبيق سياسة محددة، أن يتدخلوا إن لزم الأمر، ويصوبوا الأسعار، رغم ما لذلك من أكلاف مالية تتكبدها الدولة ومعنوية تسيء لسمعة تركيا الاقتصادية.
وهنا، وبسياق ما قيل عن دور تبديل تركيا ثلاثة محافظين للمصرف المركزي خلال عامين وإقالة آخر محافظ بعد أقل من ستة أشهر على تعيينه، رغم ما قيل عن سياسته المتطابقة ونهج الحكومة التركية، بل وأنه عضو بحزب "العدالة والتنمية" الحاكم، تقفز إلى الذاكرة قصة أطول ولاية رئيس بنك فيدرالي بتاريخ الولايات المتحدة.
هل إقالة محافظ المصرف المركزي التركي سبب كاف لتهتز العملة التركية وتخسر خمس قيمتها بليلة واحدة، أم ثمة ترقّب للداخل التركي من الخارج، إن لم نقل استهداف
يحكى أن آلان غرينسبان، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي)، كان يؤثر عدم تغيير ملامحه، تجهم أو ابتسام، خلال وقوفه على يمين الرئيس الأميركي، منذ بداية تعيينه عام 1987 وحتى تقاعده عام 2006، فضلاً عن أن أشهر محافظي المصارف المركزية بالعالم كان مقلاً بالكلام لدرجة التشكيك بسلامة نطقه.
في المقابل، آثر رؤساء الولايات المتحدة، منذ رونالد ريغان حتى جورج بوش الابن، عدم تغيير محافظ المركزي، معتبرين أن بقاء غرينسبان لنحو 19 سنة، أحد الأدلة على استقرار الدولار وثبات السياسة النقدية بالولايات المتحدة، ليرد رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي المعروف، على استقلاليته المطلقة، بشح الإطلالات الإعلامية، وقياس أي تصريح بمقياس الذهب.
بل قال مرة رداً على سؤال بشأن ثبات ملامحه خلال ظهوره النادر "أخشى تفسير انفراج ملامحي بأن الدولار والاقتصادي الأميركي مقبل على تحسّن، أو تجهمي علامة على أزمة مقبلة، لذا أؤثر عدم إعطاء المراقبين أي فرصة لتفسير ملامحي وعكسها على الدولار والاقتصاد".
ولكن، ربما من الإنصاف السؤال: هل إقالة محافظ المصرف المركزي التركي سبب كاف لتهتز العملة التركية وتخسر خمس قيمتها بليلة واحدة، أم ثمة ترقّب للداخل التركي من الخارج، إن لم نقل استهداف، لتحيّن أي فرصة أو خطأ للبناء عليه وضرب العملة، وبالتالي سمعة الاستثمار والاقتصاد، بتوقيت سبق أن اعتبرته تركيا من مفاصل تحولاتها الاقتصادية المترافقة مع لين السياسة الخارجية، سواء بالتعاطي مع ملف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أو حتى مع مصر والسعودية.
أغلب الظن، بمحاولة البحث عن إجابة، أن تهويل ما حدث بتركيا، ليل الجمعة-السبت، من إقالة محافظ المصرف المركزي وانسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول المتعلقة بحقوق المرأة، لهما الدور الأبرز بهزة الليرة، ولعل من اغتنام عطلة البورصة والمركزي، بنهاية الأسبوع دليل وبعودة الليرة للتعافي، بتداول بداية الأسبوع تأكيد على محاولات خارجية، إن لم نقل استهداف ومحاولات ضرب بمقتل.
نهاية القول: كل الملامح، داخل تركيا، المتطلعة لنهج تعاط اقتصادي وسياسي جديدين، وسعي حثيث لنقل التضخم وسعر الفائدة لمرتبة الآحاد، استعداداً للحلم الأكبر، الدخول ضمن أكبر عشرة اقتصادات بالعالم خلال مئوية تأسيس الجمهورية عام 2023. أو خارج تركيا، من توترات وملامح اصطدام ومحاولات كبح نمو ثاني أكبر دولة بمجموعة العشرين.
إنما تقتضي الملامح مجتمعة، بواقع اقتصاد قوي ومتنوّع، تمرّد على الوباء واجتاز اختبارات الأعوام السابقة، فصل الاقتصاد عن قرارات الساسة، المباشرة والعلانية على الأقل، لأن فرض رؤية السياسة البراغماتية المتبدلة على الاقتصاد الواقعي الثابت يضر بمسيرة تركيا ويعطي للمتربصين أعذاراً وذرائع، وسائل وأدوات، للتدخل وإعاقة وصول هذا النمر الاقتصادي.