جنّب المخزون الكافي في دول الخليج من السلع الغذائية المستوردة والمنتجة محلياً الأسواق من الدخول في دوامة شح البصل وارتفاع أسعاره عالمياً، في ظل أزمة إنتاج المحصول بمناطق التوريد الرئيسية، خاصة أوروبا وشرقي آسيا.
ومع تصاعد أزمة البصل عالمياً وانعكاسها على العديد من الدول العربية جرى ترويج أخبار غير دقيقة حول أسواق الخليج، إذ انتشر مقطع فيديو عبر "تويتر" لاشتباكات بين مشترين، بلغت حد الضرب المتبادل، في أحد الأسواق التجارية الكويتية، بسبب التسابق للحصول على البصل.
وفي سياق مشابه، تداول سعوديون صورة لإصدار وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية قراراً بمنع استيراد البصل من مصر، بعد إثبات التحاليل المعملية احتواءه على بقايا مبيدات مسرطنة، وزعموا أن ذلك أغلق الباب أمام البديل المتاح للبصل الأوروبي والآسيوي بأسواق المملكة، ما يقف وراء أزمة بصل محدقة.
كما أورد مقال نشره المحلل الروسي نيكولاي ستوروجينكو بصحيفة فزغلياد الروسية، في مطلع مارس/آذار الجاري، أن سعر البصل في الإمارات بلغ 5 دولارات للكيلوغرام، وذلك في سياق الحديث عن أزمة غذاء خليجية.
لا أزمة
غير أنّ مواطنين وتجاراً وبيانات رسمية أثبتت عدم صحة تعبير مقطع الفيديو المتداول في الكويت عن أزمة البصل، إذ إنّ الفيديو قديم، وجرى نشره لأول مرة في 31 مايو/أيار 2016، ووثق تضارباً بين مصريين في أحد أسواق البلد الخليجي آنذاك، ولا علاقة له بأزمة بصل جارية هناك، حسبما تكشف أداة التحقق من المقاطع المرئية InVid.
كما أن صورة قرار الوزارة السعودية المزعوم قديمة، ويعود نشرها إلى 15 فبراير/شباط 2019، على موقع البوابة المصري، حسبما تثبت نتائج التحقق عبر محرك البحث عن أصول الصور TinEye.
لكن تبقى بعض المعلومات الصحافية بشأن أسعار البصل في الإمارات مثيرة للغط، كتلك التي أوردتها الصحيفة الروسية، ما دفع "العربي الجديد" إلى التأكد من مصادرها الميدانية بأسواق الدول الخليجية.
حيث أفادت مصادر بأن السعر الوارد في مقال المحلل الروسي صحيح، لكن دلالته غير دقيقة، إذ إنّ 5 دولارات هي سعر البصل الأوروبي، وهو نوع لا يمثل حصة كبيرة في استهلاك سكان الإمارات، بعكس البصل الباكستاني والهندي، الذي يتوفر في الأسواق، كما المعتاد، دون أي قفزات سعرية.
وأفاد مواطنون وتجار "العربي الجديد" بأن المتوسطات السعرية لأنواع البصل "الشعبية" في دول الخليج جاءت على النحو الآتي: عُمان: 0.250 ريال (0.65 دولار)، الكويت: 0.250 دينار (0.81 دولار)، قطر: 2.5 ريال (0.69 دولار)، السعودية: 4 ريالات (1.07 دولار)، البحرين: 0.250 دينار (0.66 دولار).
توفر المعروض
ورصدت "العربي الجديد" صوراً من المتاجر توثق عروضاً على أسعار البصل الباكستاني والهندي في السعودية والإمارات، تصل نسبة الخصم فيها إلى 50%، ما ينفي تماماً أي أزمة معروض في السوقين.
كما قدمت المتاجر عروضاً تخفيضية بالسوق العمانية يصل فيها سعر الكيلوغرام من البصل إلى 0.190 ريال (0.49 دولار).
وفي السياق، نفى المقيم في السلطنة، حمدي عبد الرحمن، في حديثه لـ"العربي الجديد" وجود أي أزمة بمعروض البصل، لافتاً إلى أن بعض الأسواق تفرض حداً أقصى للشراء، بمقدار 2 كيلوغرام للفرد الواحد، في وقت عروض التخفيض.
وعلمت "العربي الجديد"، بمحاورة بعض تجار الخضراوات في العاصمة مسقط، أن سقف الشراء تفرضه بعض الأسواق الكبيرة فقط لمنع الممارسات الاحتكارية التي يقوم بها بعض تجار التجزئة، خاصة أن محصول البصل شديد الأهمية للعمالة الهندية والباكستانية في السلطنة، التي تستخدمه بكثافة في مأكولاتها، فضلاً عن المواطنين العمانيين، ونفوا جميعاً أي أزمة بمعروض البصل في السلطنة.
وفي قطر، أفاد مواطنون ومقيمون وتجاراً بأن أزمة البصل العالمية لا صدى لها في عموم البلاد، وأشاروا إلى أن سعر البصل يختلف باختلاف نوعه (أبيض – أحمر)، وما إذا كان محلياً أم مستورداً، إذ يصل سعر البصل الأوروبي إلى 20 ريالاً (5.49 دولارات)، لكنه ليس النوع الذي يمثل حصة الاستهلاك الأساسية في السوق.
البصل المحلي والمستورد من باكستان والهند هو أساس الاستهلاك في قطر، وهو متوافر بالأسواق من دون أي قفزات في أسعاره، حسب تجار، أشاروا إلى أن أزمة حصار قطر عام 2017، التي تعرض فيها البلد الخليجي إلى أزمة إمدادات، دفعت الدوحة إلى الاهتمام بمخزونها الاستراتيجي من الغذاء، وبنشاط الزراعة المحلي بشكل كبير، إضافة إلى امتلاك وزراعة مساحات شاسعة من الأراضي في بلدان، مثل باكستان والسودان وتركيا وأستراليا لضمان توريد محاصيلها.
كما أن البصل القطري أصبح حاضراً في الأسواق بحصة معتبرة، وعليه فإنّ أزمة البصل العالمية لم تجد لها صدى في الأسواق القطرية حتى الآن.
الاهتمام بالزراعة
ويرجع عدم وصول "جنون أسعار البصل" إلى الخليج إلى حجم مخزون البصل في دول مجلس التعاون الست، وتجهيزاتها الخاصة بالتبريد، بخلاف دول عربية أخرى، حسب مراقبين.
وتسبب تزامن الأزمات المناخية والجيوسياسية في دول تصدير البصل، سواء في أوروبا، باعتبارها المنتج الرئيسي، أو الدول الآسيوية المعروفة بتفضيل استيراد محاصيلها في الخليج، وعلى رأسها باكستان والهند، في اتخاذ الأزمة طابعاً عالمياً، حسبما صرح الخبير الاقتصادي حسام عايش لـ "العربي الجديد"، مشيراً إلى أن أوكرانيا وحدها تنتج سدس إنتاج الاتحاد الأوروبي من البصل.
ويشير عايش، في هذا الصدد، إلى أن البديل الزراعي المحلي يبدو متعذراً بأغلب دول الخليج، في ظل ندرة المياه، مشيراً إلى أن الزراعة تشغل نسبة 5.6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية، وتبلغ قيمة صادراتها نحو 30 مليار دولار، بينما تبلغ قيمة مستورداتها نحو 95 مليار دولار، ما يعني عجزاً كبيراً في الميزان التجاري الزراعي.
ويُظهر ذلك أن هناك مشكلة زراعية عربية وخليجية تجد لها تعبيراً في التفاصيل الغذائية اليومية، كما يجري حالياً في أزمة البصل، ما يؤشر إلى ضرورة الاهتمام بوضع نشاط الزراعة على أولويات خارطة التنمية، وهو ما يؤكد عايش أنه غير متحقق حتى الآن، إذ ما زالت الاستثمارات في هذا القطاع إما خجولة أو متقطعة أو قليلة لا تفي بالحاجة، بدليل أن نسبة الاكتفاء الذاتي العربي من السلع الغذائية الأساسية، مثل الحبوب والقمح والأرز واللحوم، بين 35-40%.
وهنا يلفت عايش إلى أن التفاوت النسبي في الأسعار المرتفعة نسبياً في السعودية مقارنة بدول الخليج في أزمة البصل ليس بسبب اختلاف جوهري في بنية سلسلة الإمداد أو التفاصيل الخاصة بالمياه ونشاط الزراعة، بل بسبب علاقة توافر مخزون البصل والنسبة التي يمثلها في توفير المعروض المناسب في السوق قياساً إلى عدد السكان، وارتباط ذلك بمستوى دخل الفرد في كل دولة.
فارتفاع الطلب على خلفية "الكثافة" الكبيرة للعمالة الأجنبية في السعودية، الأكبر خليجياً، يعني ارتفاعاً بسعر البصل، خاصة أن نسبة معتبرة من تلك العمالة تنتمي إلى بلدان آسيوية، ذات ارتباط يومي خاص بالبصل على مائدة الطعام، حسب عايش.
غير أن تفاصيل أزمة البصل ليست سوى صورة من صور الأزمة الأوسع في إمدادات الغذاء العالمية، وما تمثله من مخاطر على الأمن الغذائي الخليجي، باعتبار أن دول المنطقة مستوردة لأغلب احتياجاتها الغذائية، وفق عايش، الذي يحذر من انعكاس تأثير المشكلات المناخية والسياسية واللوجستية على الأمن الغذائي العربي والخليجي.
ويشير الخبير الاقتصادي، في هذا الصدد، إلى أن قائمة أولويات الحكومات العربية والخليجية بحاجة إلى تعديل، إذ لا تهتم أحياناً بتحقيق الأمن الغذائي بمفهومه العام، ما يؤكد ضرورة الاهتمام بنشاط الزراعة المحلي من جانب، وتشبيك الاحتياجات الغذائية الخليجية والعربية من جانب آخر، لافتاً إلى أن الشراكة الاقتصادية بين الإمارات والبحرين ومصر والأردن، في مايو/أيار 2022، علامة بارزة في هذا الإطار.
بدائل أقل جودة
وفي السياق نفسه، يرى المحلل الاقتصادي مازن أرشيد، في تصريح لـ "العربي الجديد"، أن أي سلعة في العالم يرتفع سعرها عندما يتراجع المعروض منها مع زيادة الطلب، وهذا ما جرى عالمياً مع بعض المحاصيل الزراعية، ومنها البصل.
ويشير أرشيد إلى أن تراجع معروض البصل عالمياً يعود جزئياً إلى سوء التخزين في العديد من البلدان المصدرة للبصل، بخاصة دول شرقي آسيا، مثل باكستان والهند، إما لعدم امتلاك بعض تجار البصل عوامل التخزين والتبريد اللازمة لحفظه، أو عدم تمكن البعض الآخر من الوصول للمحاصيل، سواء لأسباب طبيعية مثل الفيضانات، أو لوجستية، ما يؤدي إلى تلف تلك المحاصيل، ومن ثم انخفاض المعروض وارتفاع الطلب.
ويشير المحلل الاقتصادي، في هذا الصدد، إلى أن الأزمة الجيوسياسية التي تمر بها الدول البديلة في تصدير البصل، مثل أوكرانيا، سبب آخر لانخفاض المعروض في الأسواق، إذ علقت تصدير المحصول، كما فعلت دول أخرى، مثل أفغانستان وتركمانستان وطاجيكستان.
ويلفت أرشيد إلى أنّ البصل المصري قد يكون بديلاً مؤقتاً للبصل الباكستاني والهندي، ذي الصيت الواسع في السوقين الإماراتي والخليجي، لكن يظل أقل جودة، وبالتالي فإنّ الإقبال على شرائه حال استيراده لن يضمن تعافياً دائماً من انخفاض المعروض، وبالتالي لن يضمن عودة استقرار السوق بالمناطق التي طاولتها الأزمة عربياً.