ورد في سورة يوسف الآية (43): "وقال الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، يا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ". وتلك الرؤيا هي التي فتحت الحلّ على السنوات العجاف، وتمكّنت مصر من حلّ مشكلتها حين عيَّن المَلك آنذاك يوسفَ على خزائن الأرض لأنّه كان المكين الأمين.
وعند نقص المياه، واستقواء الأقوياء على الضعفاء، تقدّم النبي موسى لنجدة بنات شعيب المغلوب على أمْرِهن من تدافع الناس طلباً للماء من العين، فملأ لهن الجرار. وأقنعت إحداهن أباها بأن يستأجره. وبحسب نص الآية (26) من سورة القصص "قالت إحداهن يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القوي الأمين".
وتذكرت هاتين القصتين ذاتي العلاقة بمصر وأهلها مع النبيين، يوسف وموسى، وأنا أشاهد على محطة بريطانية مقابلة مع الخبير الاقتصادي المصري، أحمد السيد النجار، قال إنّ الجنيه المصري الذي يتداول في الأسواق بمعدل 18.3 جنيهاً للدولار هو أدنى من معدله الفعلي بكثير. وقال إنّ السعر (العادل) للجنيه يجب ألا يزيد عن 5-6 جنيهات للدولار الواحد.
لقد تمَكَّنت مصر في السنوات بين 2015-2019 من تحقيق معدلات نمو سنوية تربو على 5% بالأرقام الفعلية، ولكن هذا الرقم بدأ في التراجع حتى وصل إلى 3.5% عام 2020، علماً أن تصريحات رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، تنبأت بمعدل نمو في السنة المالية 2020 /2021 يصل إلى 9%، إلا إذا قصد بهذا الرقم النمو بالأسعار الجارية.
وقد صرّحت قبل ذلك وزيرة التخطيط المصرية هالة السعيد في شهر فبراير/ شباط الماضي أن معدل النمو بلغ 1.3% في النصف الأول من العام المالي السابق 2020 /2021
لكن، من الواضح أنّ الاقتصاد المصري قد عانى كثيراً من أزمة كورونا. ومع أن العالم شهد لمصر أنها أحسنت إدارة تلك الأزمة، وتأملت أن يعيد الاقتصاد زخمه التنموي، إلا أن الحرب في أوكرانيا فاجأت المخطط المصري بعدد من الأمور السلبية والتحديات الصعبة.
ومن أهم هذه التحدّيات ارتفاع المديونية الداخلية والخارجية في مصر، وقد بلغ الدين العام المصري عام 2021 مقدار 377 مليار دولار، أو ما يساوي 95% من الناتج المحلي الإجمالي، في الوقت الذي بلغت فيه 89.7% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020. ولكن المعضلة أن هذا الدين العام يشكّل قلقاً أكبر إذا ما قورن بحجم الرصيد الاحتياطي الرسمي لدى البنك المركزي المصري، والذي وصل إلى 41 مليار دولار في نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي، ثم عاد وهبط في نهاية الشهر الذي يليه مارس/ آذار إلى 37.1 مليار دولار، علماً أن هذا الرصيد بقي مستقرّاً فوق الـ 40 مليار دولار منذ نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2020. إذاً، نسبة الدين العام في مصر تشكل حوالي عشرة أضعاف الأرصدة الأجنبية الرسمية لديها.
ويرتبط العجز في ميزان المدفوعات في مصر بأن اقتصادها قد تأثر بتراجع مصادر العملات الأجنبية من مساعدات واستثمارات وتحويلات وصادرات وسياحة، وعائدات قناة السويس. وفي المقابل، زادت فواتير مصر، خصوصاً تجاه المستوردات الغذائية التي ارتفعت أسعارها عالمياً.
ولعلّ أبرز رقم في هذا المجال ارتفاع أسعار القمح، فبعدما كان 350 دولاراً للطن قبيل اندلاع الحرب في أوكرانيا وصل الآن إلى حوالي 450 دولاراً للطن، أي بزيادة مائة دولار للطن. وتحتاج مصر إلى حوالي 19 مليون طن تنتج منها في حدود 8-10 ملايين طن سنوياً. وهذا يعني زيادة في فاتورة الاستيراد، قد تصل إلى مليار دولار إذا بقيت الأسعار على حالها.
وقد كان لدى مصر مخزون يكفي أربعة أشهر ونصف الشهر، حسب تصريحات وزير الزراعة السيد القصير، إلّا أنّ هذا لن يحلّ معضلة مصر التي ستكون بحاجة إلى توسيع رقعتها الزراعية المخصصة للقمح، واستزراعه في أراضٍ جديدة، وهي تقوم بذلك حالياً.
أما الأمر الرابع فهو التضخم وارتفاع الأسعار. ومع أنّ الخبز المدعوم في مصر ما يزال رخيصاً، إلّا أنّ الحكومة التي تودّ رفعه لتخفيف مخصّصات الدعم قد ينطوي على مزيد من الشكوى لدى الطبقات الأقل حظاً ودخلاً، والتي يشكل الخبز (العيش) جزءاً أساسياً في الغذاء اليومي للمواطن المصري.
وهنالك دلائل على أن الاقتصاد الرسمي المصري يعاني من نقص القدرة على إيجاد فرص عمل كافية، خصوصاً إبان الأزمة الاقتصادية الناجمة عن كورونا والحرب الأوكرانية، والتي أدت إلى تراجع معدّلات النمو إلى نسب غير كافية لإيجاد فرص العمل المطلوبة.
ومع أن استجابة المسؤولين في مصر فعّالة وسريعة مع المستجدّات والطوارئ، فإنّ مصر لن تتمكّن من حلّ مشكلاتها الاقتصادية الحقيقية بيسر وسهولة. ولعلّ من المفيد أن تتبنّى مصر نهجاً جديداً في التنمية لا يعتمد على البناء والعمران.
وما جرى في مصر في السنوات السابقة مدهش من حيث النمو العمراني، لكنّ لهذا الإنجاز كلفته، أوله أنّ الوظائف التي يخلقها مؤقتة، وبانتهاء زخم البناء تزداد كلفة الصيانة بمبالغ كبيرة جداً يصعب ترصيدها. ويكثر كذلك الطلب على الخدمات المرافقة، مثل الحراسة، والحدائق، والنظافة، والتي تتطلب عمّالاً محدودي المهارة وقليلي الأجور.
ومع أنّ مصر قطعت أشواطاً في الصناعة، وفي تنمية المرافق السياحية، وهي ستعود عليها بالخير في المستقبل بعد انتهاء أثر الحرب الأوكرانية وكورونا وعودة الاقتصاد المصري والعالمي إلى طبيعتهما، ولكن لابد لمصر أن تنتبه إلى المؤثرات الاجتماعية التي ينطوي عليها التباين الشاسع في الدخل والثروة بين أبناء مصر. وتدل الإحصاءات المتاحة أنّ الحد الأدنى للأجور يصل إلى أقل من 2500 جنبه مصري في الشهر، وأنّ الحد الأعلى يصل إلى 41.100 ألف جنبه شهرياً. وتبين أن أغنى 10% في مصر ينفقون 70 ضعف أفقر 10% من السكان. وتستحق هذه النسبة الاهتمام والتفكير.
من الواضح أنّ مصر بحاجة للتركيز على القطاعات الإنتاجية، وإيجاد فرص عمل داخل الاقتصاد الرسمي، علماً أنّ الاقتصاد غير الرسمي يشكل نسبة عالية يقدّرها بعضهم بنحو 50%، وأنّها تخلق 68% من الوظائف الجديدة. هذه الازدواجية الواضحة في اقتصاد مصر غير مرغوبة ويجب التصدّي لها.
مصر قادرة على أن تكون اقتصاداً عربياً مميزاً. وعلى الكلّ أن يدرك أنّ مصر قادرة، بالتعاون مع جاراتها، خصوصاً ليبيا والسودان، أن تجعل اقتصادها واقتصاد جاراتها أفضل بكثير وأكثر صموداً وتحدّياً. المطلوب نموذج اقتصادي واجتماعي جديد يرفع من الإنتاجية ويعزّز الأمن والاستقرار المستهدفيْن في مصر.