حققت تركيا خلال عامي 2021 و2022 معدلاً للنمو الاقتصادي، تميزت به بين الدول الأوروبية وعلى الصعيد العالمي. ففي 2021 تجاوز معدل النمو 11%، وفي 2022 نشر معهد الإحصاء التركي أن أداء معدل النمو كان 7.5% في الربع الأول، و7.4% في الربع الثاني، و3.6% في الربع الثالث. إلا أن صندوق النقد الدولي في تقريره "آفاق الاقتصاد العالمي - أكتوبر 2022"، توقع أن يبلغ نمو الناتج المحلي لتركيا 5% في عام 2022، وأن يتراجع إلى 3% في عام 2023.
لكن الأحداث الخاصة بكارثة الزلزال الذي ضرب 11 ولاية، وضع البلاد في أزمة حقيقية، نالت من البنية الأساسية في هذه الولايات، فضلاً عن تراجع مساهمتها في المؤشرات الاقتصادية الكلية، مثل حصة تلك الولايات في الصادرات السلعية، وكذلك مساهمتها في مكونات النشاط الزراعي والصناعي والخدمي لتركيا، كذلك أثر بالنشاط السياحي إجمالاً في البلاد.
هذا فضلاً عن تلف الأموال الخاصة للمتضررين من أسر وأفراد، وما ترتب على حالات الوفاة من حقوق والتزامات اقتصادية، تجاه البنوك والمؤسسات الاقتصادية المختلفة. والتقديرات الأولية لخسائر في الولايات الـ 11، تراوح ما بين 85 مليار دولار وفق تقديرات اتحاد الشركات والأعمال التركي و100 مليار دولار وفق تقدير الأمم المتحدة.
خبرات إيجابية سابقة
لا شك أن أزمة الزلزال وما نتج منها من تداعيات سلبية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، لا تخفى على أحد، وتتطلب اتخاذ خطوات سريعة وجادة لمواجهتها، والتغلب عليها، وهو ما فعلته حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم التي واجهت على مدار السنوات الماضية أكثر من قضية كبرى على صعيد الاقتصاد الكلي، ولكنها تجاوزتها بنجاح.
ولا يعني ذلك أن المواجهة كانت بلا ثمن. ففي عام 2015، تجاوزت تركيا التداعيات السلبية اقتصادياً نتيجة موقفها ودعمها لثورات الربيع العربي، على الرغم من محاولات التأثير فيها عبر الاستثمارات الأجنبية أو التجارة البينية أو النشاط السياحي.
وفي عام 2016، تجاوزت التداعيات السلبية لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشل، واستعادت الدولة كامل دورها كقوة إقليمية ودولية، وأثبتت حضورها القوي في العديد من الملفات التي فرضت عليها.
وفي عام 2018 تجاوزت الحكومة تداعيات السلبية للتراجع الكبير في العملة المحلية، وكانت الصادرات السلعية وارتفاع قيمتها المتتالي دليلاً على النجاح في مواجهة الأزمة.
وفي تجربة قريبة، لكنها قليلة الحجم مقارنة بكارثة زلزال فبراير 2023، ولكنها في ذات المضمار، استطاعت الحكومة الوفاء بتعهداتها في أزمة زلزال أزمير في عام 2020، حيث قامت ببناء 1391 مسكناً، و302 مكان عمل.
وتبقى المهمة الكبرى أمام الحكومة الإيفاء بالتزاماتها بإعادة الإعمار في الولايات الـ11 التي ضربها الزلزال، والتي تضم قرابة 14 مليون فرد، وبما يمثل نحو 16% من إجمال السكان في تركيا.
التكلفة والعائد لإعادة الإعمار
حسب الحصر الأولي لخسائر الزلزال في الولايات التركية المنكوبة -حتى كتابة هذه السطور- هناك قرابة 7 آلاف مبنى تهدم، وخرجت 4 مطارات عن الخدمة، وكذلك خرج ميناء الاسكندرون عن الخدمة، وأدى ذلك إلى تعطل النشاط التجاري والصناعي، وبخاصة ما يتعلق بالصادرات السلعية.
كذلك تهدمت العديد من الطرق الرئيسية والفرعية، بل تغيرت إحداثيات طرق، ما أثر في بعض خطوط السكك الحديدية، وكذلك الطرق الرئيسة في بعض المناطق. وبلا شك، إن خطة إعادة الإعمار التي تعهدت بها الحكومة التركية، منذ اللحظات الأولى للكارثة، تتضمن تناول كل هذه المرافق بالإنشاء الجديد، والصيانة لما هو صالح للاستخدام. وكان الرئيس رجب طيب أردوغان قد قطع على نفسه عهداً أمام الرأي العام، بأن حكومته ستعيد بناء المنازل وأماكن العمل التي تضررت خلال عام، على أن يبدأ العمل في مطلع مارس/ آذار 2023.
الفرصة
الفرصة أمام قطاعات الاقتصاد التركي، في المجالين الإنتاجي والخدمي، كبيرة من خلال إعادة الإعمار. فمثلاً، قطاع الإنشاءات يسهم بنسبة تقترب من 10% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، كذلك يتمتع قطاع الإنشاءات بإمكانات كبيرة مكنته من المساهمة في تنفيذ العديد من الأعمال خارج البلاد، وبالتالي ستكون عملية إعادة الإعمار في مقدور الشركات التركية.
هذا فضلاً عن أن تركيا دولة منتجة لسلعتي الحديد والإسمنت اللتين تمثلان عماد عملية إعادة الإعمار في البناء والتشييد للمباني المهدمة، أو تشييد المرافق الخاصة بالمطارات والموانئ، وسيكون هناك فرصة كذلك لتوظيف يد عاملة في تلك المشروعات، ما يخفف من حدة مشكلة البطالة.
كذلك إن ما يتعلق بإعادة المنشآت الإنتاجية، المصانع أو الورشة الإنتاجية، تعتمد في توفير خطوط الإنتاج الخاصة بها على ما يتوافر من الأسواق المحلية، كل ذلك سيمثل إضافة في الناتج المحلي من سلع وخدمات، قد يؤثر بحصص التصدير، ولكن سيمكن من المزيد من قوة القاعدة الإنتاجية في تركيا.
التمويل
منذ اللحظات الأولى، أعلنت الحكومة التركية توفير 100 مليار ليرة لإعادة الإعمار، ووفر المجتمع المدني مثلها عبر حملة تبرعات كبيرة، تحت عنوان "تركيا قلب واحد"، وقد يستلزم الأمر أن تزيد الحكومة مخصصات إعادة الإعمار عن المبالغ المعلنة في بداية الأزمة.
ويعني هذا زيادة العجز في الموازنة العامة للبلاد، وحسب بيانات وزارة الخزانة، قُدِّر العجز في موازنة 2023 بـ 659 مليار ليرة (35 مليار دولار تقريباً)، وفي حالة زيادة العجز بالموازنة العامة للدولة عما هو مقدر بالموازنة، نتيجة تمويل إعادة الإعمار، فإن ذلك سيكون له مردود إيجابي، لأن الإنفاق سيتم على بنود تتعلق بالإنتاج وإضافة أصول رأسمالية للمجتمع.
وبلا شك، إن التمويل ستكون له مصادر عدة، وبخاصة أن تركيا لها تجارب ناجحة عبر آلية (POT) يمكن الاستفادة منها كثيراً. كذلك يمكن لتركيا أن تستفيد من آلية الصكوك الإسلامية لتمويل إعادة إعمار المرافق العامة (المطارات، الموانئ، الطرق الرئيسة)، وبخاصة أن هناك حالة تعاطف إنساني وإسلامي كبير مع تركيا، وستكون الفرصة أفضل في حالة تمويل الصكوك من الأسواق الخارجية، بما يضيف موارد جديدة من النقد الأجنبي من الخارج، ولا يمثل عبئاً على الموارد المحلية. وثمة ملاحظة جديرة بالانتباه، وهي أن القرار الذي اتخذه البنك المركزي التركي أخيراً بخفض سعر الفائدة عند 8.5%، من شأنه أن يشجع على خفض تكلفة الإنتاج، بتلك الأنشطة المتعلقة بإعادة الإعمار، وبالتالي حدوث المزيد من معدلات النمو الاقتصادي.
مضاعف الاستثمار
سيؤدي الإنفاق المتوقع في عملية إعادة الإعمار في الولايات الـ11 المتضررة من أزمة الزلزال، إلى تنشيط الدورة الاقتصادية في قطاعات عدة، خاصة تلك التي تساهم مباشرةً في عملية إعادة الإعمار، مثل قطاعات الإنشاءات والبناء والتشييد، الصناعة، النقل، الأغذية، فلكون التقديرات تشير إلى متطلبات مالية بحدود 30 مليار دولار تقريباً، فإن الأثر المضاعف لهذا المبلغ سيكون كبيراً، من خلال إعادة تدوير كل مستفيد من هذا الإنفاق في أنشطة اقتصادية أخرى.
وعلى الرغم من أن توقعات المؤسسات المالية الدولي (البنك والصندوق الدوليان) بتراجع معدل النمو الاقتصادي العالمي في عام 2023 إلى قرابة 2.7%، إلا أنه على الصعيد التركي، ستحمل عملية إعادة الإعمار نتائج إيجابية لزيادة معدلات النمو الاقتصادي للبلاد، وهو ما يعني أن توقعات النمو الاقتصادي لتركيا في عام 2023 قد تزيد على 3%، كذلك يتوقع أن تتراجع معدلات البطالة عما كانت عليه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 عند 10.2%.