تكلفة هجرة الأدمغة من إسرائيل بسبب الحرب

28 أكتوبر 2024
مسافرون في مطار بن غوريون بتل أبيب، 14 إبريل/نيسان 2024 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت إسرائيل بعد حرب السابع من أكتوبر موجة هجرة كبيرة من النخبة، مثل الباحثة بيوريت كراجيستين، بسبب فقدان الثقة في الأمن والرفاهية، مما أثر على المجتمع ورفع تكاليف المعيشة.
- هجرة الكفاءات، بما في ذلك الأكاديميين والأطباء والمهندسين، تهدد قطاع التكنولوجيا في إسرائيل وتثير قلق الاقتصاديين، حيث عقدت مؤتمرات لمناقشة فقدان العقول المبدعة.
- تواجه إسرائيل تحديات ديموغرافية مع تزايد عدد اليهود الحريديم غير المشاركين في سوق العمل، مما يهدد الاستقرار ويزيد عدم المساواة، ويجعل الهجرة خيارًا جذابًا.

بعد مرور ما يزيد على سنة على حرب السابع من أكتوبر، أصبح الآلاف من النخبة الإسرائيلية على قناعة بأن إسرائيل لم تعد بلد الرفاه والديمقراطية والأمن الذي رغّبهم الآباء المؤسسون في الهجرة إليه والعيش فيه، وأنه خير لهم أن يحزموا أمتعتهم ويتركوا هذه الأرض عائدين من حيث أتوا.

قصت كبيرة مراسلي الاقتصاد في صحيفة تلغراف البريطانية حكاية الباحثة في علم الوراثة الجزيئية، بيوريت كراجيستين، من مدينة تل أبيب وشريكها الإسرائيلي وهما يحزمان حقائبهما استعداداً للهجرة الدائمة إلى استوكهولم عاصمة السويد، حيث ستعمل أستاذة مساعدة في الجامعة، مؤكدة أنها لا تريد أن تعيش في إسرائيل مرة أخرى، وتقول إن هذا الإحساس سببته الحرب لها.

في كل ليلة من ليالي الحرب المتواصلة منذ عام، تنام بيوريت البالغة من العمر 37 عاماً وهي مرتدية ملابس الخروج. وقبل النوم تطمئن على مفاتيح البيت، وتتأكد دائماً أنها في المكان نفسه خلف الباب مباشرة، لأنه بمجرد انطلاق صفارات الإنذار الصاروخي، لا يكون لديها هي وشريكها سوى 90 ثانية فقط لأخذ ابنتهما البالغة من العمر عامين والركض مسافة 150 متراً إلى أقرب ملجأ هرباً من المتفجرات. تقول في أسى: "أنا دائماً في حالة تأهب وهو أمر مرهق للغاية".

طوال شهور الحرب، تتناوب بيوريت وأولياء الأمور الآخرون على مراقبة حضانة أطفالهم، وهم متأهبون لنقل الأطفال إلى الملجأ تحت الأرض في حالة سقوط صواريخ. وكان هذا الخوف الناجم عن الحرب بمثابة الحافز الذي دفع العديد من الأصدقاء إلى الرحيل قبلها، لأنهم جميعاً لديهم أطفال صغار ويرغبون في بناء مستقبل أكثر إشراقاً في أوروبا. أما الأصدقاء الذين ليست لديهم جوازات سفر أوروبية فيشعرون بالضياع ويبحثون عن طرق أخرى للمغادرة.

معاناة بيوريت وزملائها من الأكاديميين تعكس التأثيرات العميقة للحرب على المجتمع في إسرائيل. كثير من الأماكن العامة في تل أبيب أغلقت أبوابها، وفق بيوريت. وتضاعفت أسعار وقود السيارات خمس مرات وهوت السياحة، وأصبح الذهاب لإجازة أكثر تكلفة مع انسحاب شركات الطيران الأجنبية ورفع أسعار تلك التي لا تزال تعمل. وفي الوقت نفسه، ضعفت قيمة الشيكل الإسرائيلي مقابل العملات الرئيسية ومنها الدولار واليورو. وأدت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر إلى تعطيل الشحنات، فيما التأمين على السلع من الخارج أصبح أكثر تكلفة وصعوبة، ولذلك ارتفعت الأسعار.

تناقلت وسائل إعلام عبرية قصة نخب في إسرائيل قررت الهجرة الدائمة، وتناقلتها في بداية شهر سبتمبر/أيلول الماضي بعد مرور أحد عشر شهراً على الحرب. وهي السيناريست نوعا روتمان، حفيدة رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، إسحق رابين، والتي قررت الهجرة إلى الولايات المتحدة. وكشف موقع والا العبري عن تخلي حفيدة رابين وعائلتها عن فكرة العيش في الكيان، فقد سجلت أبناءها في مدرسة أميركية، وليست نادمة على قرار الهجرة. روتمان معروفة بمواقفها اليسارية المناهضة لحكومة بنيامين نتنياهو التي تعبر عن اليمين المتطرف الذي قتل جدها في سنة 1995 بسبب توقيعه اتفاقية أوسلو.

قالت ليمور لانديس، وهي مديرة تنفيذية في مجال تكنولوجيا المعلومات عالية الدقة انتقلت إلى إسرائيل من مدينة نيويورك قبل 11 عاماً، إنها كانت خائفة للغاية ومتوترة بسبب هجوم حماس لدرجة أنها هربت على أول رحلة إلى سيدني بأستراليا، حيث ينحدر زوجها. عاد الزوجان وابنتهما الصغيرة إلى منزلهما في رامات هاشارون، وهي ضاحية ساحلية في تل أبيب في ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكنهما حالياً يخططان للانتقال إلى الولايات المتحدة، طبعاً بسبب هجمات إيران وحزب الله.

هجرة الكفاءات

يرى مفكرون إسرائيليون أنّ السياسات التي تنتهجها حكومة بنيامين نتنياهو منذ بداية الحرب تعيق قدرة الإسرائيليين على استعادة توازنهم. وبعد مرور عام على أكثر الصراعات دموية في تاريخ إسرائيل، تبدد شعور الإسرائيليين بالأمن، وطفت كثير من الأزمات الاقتصادية على السطح، على الرغم من أن البيانات الرسمية تبدو مستقرة، كما يقولون.

وأصبحت هجرة الكفاءات من إسرائيل ظاهرة تخفيها الحكومة. وتحدث عنها العالم الإسرائيلي الحائز جائزةَ نوبل آرون سيخانوفر، وحذر من خطورتها وقال إنها أصبحت "موجة ضخمة"، وإن معظم الأطباء الكبار يغادرون المستشفيات ويهاجرون خارج إسرائيل، وإن الجامعات تجد صعوبات حالياً في إقناع أعضاء هيئة التدريس في المجالات الحيوية بالبقاء.

سيخانوفر عقد مؤتمراً في أغسطس/آب الماضي باسم "المؤتمر الوطني الطارئ" لمناقشة أزمة هجرة العقول من إسرائيل في كيبوتس نير عوز، وهو تجمع استيطاني في غلاف غزة دُمّر وأخلي في هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. رغم أن الكيبوتس في مرمى صواريخ المقاومة، حضر المؤتمر مائة من قادة الأعمال والأكاديميين والنخب، بما في ذلك رئيس شركة ويكس نير زوهار، والرئيس التنفيذي لشركة فوكس هاريل ويزل، ومؤسس شركة ميلانوكس والحائز مؤخراً جائزةَ إسرائيل، إيال والدمان، وفق صحيفة تايمز أوف إسرائيل. وقال سيخانوفر إن إسرائيل في "خطر شديد بسبب رحيل أفضل مواطنيها وألمعهم".

ويقول أستاذ الاقتصاد المشارك في الجامعة العبرية في القدس ومستشار بنك إسرائيل المركزي ألون إيزنبرغ، إن خروج الكفاءات والموهوبين يثير قلقاً خاصاً في ما يخص قطاع التكنولوجيا المربح في إسرائيل، والذي يشكل حصة لا يمكن تعويضها من الناتج المحلي الإجمالي. وشبّه هجرة الأدمغة وخسارة رأس المال البشري في هذه الحرب بموجة مشابهة حدثت بعد حرب أكتوبر سنة 1973 لتأثيرها المدمر والمزعزع لاستقرار المجتمع.

ويعبر رئيس منتدى كبار خبراء الاقتصاد الإسرائيليين والأكاديمي في جامعة تل أبيب، إيتاي أتير، عن قلق بالغ للغاية بشأن الوضع المالي في ظل استمرار الحرب وعجز الحكومة التام، التي لا ترقى إلى مستوى التحدي تجاه نزيف الاقتصاد. ويترتب على عجز الاقتصاد تراجع الإنفاق على البحوث والمشاريع الأكاديمية.

موقف
التحديثات الحية

رفض أربعة أزواج وشخصان في مقابلة صحافية التحدث علناً عن رحيلهم لأنهم يخشون أن يعتبر أفراد أسرهم وأصدقاؤهم أنّ تعليقاتهم غير حساسة أو غير محترمة. وقال الجميع إنهم يدركون تمام الإدراك أن وظائفهم في مجال التقنية العالية أو جنسياتهم المزدوجة تمنحهم خيارات في الخارج لا يتمتع بها العديد من جيرانهم.

ماور وولفسميث، وهو طبيب نفسي إكلينيكي للأطفال وباحث في مجال الطفولة هاجر من تل أبيب إلى لندن في أغسطس الماضي برفقة شريكته التي تربطه بها علاقة طويلة الأمد، وهي مواطنة بريطانية، مع طفليهما الصغيرين. يقول إنه أخذ إجازة من عمله ليأخذ قسطاً من الراحة بعيداً عن إسرائيل، لكنه في الواقع ربما يهاجر بعيداً عن إسرائيل، تقول الصحافية. وهناك قصص كثيرة مشابهة لأكاديميين وأطباء ومهندسين ورؤساء شركات تكنولوجيا فائقة قرروا الهجرة بعد حرب السابع من أكتوبر.

تأثير مضاعف

هناك إشكالية أخرى تخص الهجرة العكسية عموماً وهجرة العقول والكفاءات خصوصاً، في ظل عدم إقدام اليهود الحريديم على الهجرة، وزيادة معدل الخصوبة بينهم، وتراجع نسبة مشاركتهم في سوق العمل والخدمة العسكرية بحجة أن التوراة نفسه هو مهنته، وتأثير ذلك على التركيبة السكانية ونمط الاستهلاك والإنتاج، ومن ثم تهديد استقرار المجتمع ومبدأ العدالة والمساواة.

وفق دائرة الإحصاء الإسرائيلية، بلغ عدد سكان إسرائيل نهاية العام الماضي نحو 9.9 ملايين مواطن، منهم 7.3 ملايين يهودي، و2.1 مليون عربي. وصل عدد الحريديم في إسرائيل إلى 1.4 مليون، ما يعادل خمس عدد اليهود. ومعدل الخصوبة بينهم عالٍ، فيزيد عددهم سنوياً بمعدل 4.2% في مقابل 1.4% لدى اليهود من غير الحريديم. ولذلك تزداد نسبتهم مقارنة بعدد السكان اليهود في إسرائيل باطراد. ففي حين بلغت هذه النسبة 12% في عام 2009، وصلت إلى 19% في نهاية عام 2023.

والخطير هنا، أن مجتمع اليهود الحريديم مستهلك وليس منتجاً. فنسبة الرجال الذين يعملون لا تزيد عن 50% والبقية لا تعمل. ونسبة صغار السن لدى الحريديم تصل إلى ضعف النسبة تقريباً عند غيرهم من اليهود، فنسبة الذين تقل أعمارهم عن 19 سنة تبلغ 58%، في مقابل 32% في الفئة نفسها عند اليهود غير الحريديم.

أضف إلى ذلك أن نسبة الذين لا يشاركون في التجنيد الإلزامي تفوق 80%، ما يحرم الجيش من 13 ألف جندي تجب عليهم الخدمة الإلزامية. وفي ظل العجز في عدد الجنود الاحتياط الذين تم تجنيدهم، رفع مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي سن الخدمة في الجيش على جنود الاحتياط حتى 40 عاماً، وعلى ضباط الاحتياط حتى 45 عاماً، ومدد الخدمة العسكرية الإلزامية للرجال إلى 36 شهراً بدلاً من 32 شهراً قبل الحرب الحالية.

كل ذلك يزيد من عدد الذين يُستدعون إلى التجنيد فيحرَم سوق العمل منهم، ليصل عددهم إلى أكثر من 360 ألفاً، تطول مدة بقائهم في الخدمة. طول مدة خدمة الاحتياط في الجيش له انعكاسات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي، إذ قدرت وزارة المالية تكلفة أيام الاحتياط في الحرب بعد سبعة أشهر من بدايتها بنحو 8.2 مليارات دولار، وما زالت الحرب مستمرة. ما يعني أن رفض يهود الحريديم الهجرة والانخراط في التجنيد والمشاركة في سوق العمل يزيد من شعور اليهود، ولا سيما النخبة بعدم المساواة والحاجة إلى الهجرة، ويزداد تأثير الهجرة العكسية سلباً على الاقتصاد الإسرائيلي واستقرار المجتمع في المدى القريب.

لا شك أن الهجرة خارج إسرائيل كانت وصمة عار قبل "طوفان الأقصى". وفي إسرائيل، تطلق كلمة "الساقطون" على هؤلاء المهاجرين. لكن في السنوات الأخيرة، ولا سيما هجوم حماس واشتعال الصراع الإقليمي، وقبله الانقسام السياسي والانقلاب على القضاء، اختفت هذه الوصمة، وذلك في ظل غياب الشعور بالأمن وتراجع الاقتصاد وزيادة الأسعار. وهناك عامل آخر مهم، وهو أن الوظائف الطبية والأكاديمية والتكنولوجية العالية ذات الأجور الأعلى الآن في الولايات المتحدة وأوروبا، اجتذبت أعداداً كبيرة من هذه النخبة الإسرائيلية للهجرة إلى الخارج، من دون الالتفات إلى اعتبارات القومية واليهودية.