في خضم المعارك الدامية الدائرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي يوم 11 مايو/ أيار، نشرت وكالة رويترز، نقلا عن مسؤول حكومي إسرائيلي وآخر في قطاع الطاقة، خبرا مقتضبا ودون تفاصيل يفيد بأن خط أنابيب وقود مملوك لشركة حكومية إسرائيلية أصيب في هجوم صاروخي من غزة.
وأضافت الوكالة أن القناة 12 بالتلفزيون الإسرائيلي بثت مقطع فيديو أظهر ألسنة اللهب تتصاعد مما يبدو أنه مستودع ضخم للوقود بالقرب من مدينة عسقلان الساحلية، جنوبي تل أبيب. إعلان القناة الإسرائيلية عن الخبر بطريقة مبهمة ومقتضبة ودون ذكر اسم خط الأنابيب المستهدف بالقصف يوحي بالأهمية الاستراتيجية للهدف والخسارة الفادحة لإسرائيل.
في اليوم نفسه، أعلنت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، عن استهداف صهريج وقود بمنشأة استراتيجية للنفط في جنوب مدينة عسقلان على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بصواريخ ثقيلة ومكثفة ومباشرة، ما أدى إلى اندلاع نيران كثيفة في المكان واحتراق كميات ضخمة من الوقود.
وفي فجر اليوم التالي مباشرة لقصف سرايا القدس الصهريج، عاودت كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، قصف الصهريج نفسه بـ20 صاروخا من طراز Q20 رغم استمرار اشتعال النيران فيه لأكثر من 24 ساعة.
وعلق على الخبر مراسل قناة الجزيرة إلياس كرام، الذي كان موجودا بالقرب من المكان، بقوله إن الصهريج المستهدف يتبع خط أنابيب بترول يسمى "كاتسا" باللغة العبرية وتحيطه إسرائيل بسرية كبيرة وتفرض عليه تعتيما إعلاميا، وقد أعلنت قبل سنوات عن توقفه عن العمل بعدما كان يستخدم في تزويد إسرائيل بالبترول الإيراني في عهد الشاه محمد رضا بهلوي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
المصادر التاريخية توثق إنشاء إيران تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي خط أنابيب إيلات - عسقلان لتزويد إسرائيل بالنفط كرد فعل على وقف مصر عبور ناقلات النفط وغيرها في قناة السويس بسبب العدوان الثلاثي سنة 1956.
واستخدمت إيران الخط لإمداد إسرائيل باحتياجاتها النفطية لمدة عقدين من الزمان من ميناء إيلات في خليج العقبة على البحر الأحمر، جنوب فلسطين، وقامت بتصدير كميات كبيرة منه إلى الأسواق الأوروبية عبر أنبوب يصل طوله إلى 255 كيلومترا إلى محطة الوقود في مدينة عسقلان، شمال قطاع غزة، والتي قصفتها المقاومة، حتى أسدل الستار على الخط التاريخي وتوقف عن العمل بسبب اندلاع الثورة الإيرانية وسقوط نظام الشاه في عام 1979.
توجد على طول الخط ثلاث محطات دفع لنقل النفط الخام من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط مع إمكانية نقل حوالي 30 مليون طن من النفط الخام سنويًا. وتوجد محطتا دفع تسمحان بالتدفق في الاتجاه المعاكس لنقل النفط من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر بطاقة 30 مليون طن سنويا أيضا.
وفي سنة 2014 حدث تسريب للنفط من الخط المذكور على بعد 20 كيلومترا شمال ميناء إيلات باتجاه عسقلان، وخلال ساعتين فقط تسبب التسريب في أسوأ كارثة بيئية في تاريخ إسرائيل، وفق تصريح لرئيس إدارة البيئة، حيث تسرب أكثر من 1.3 مليون غالون من النفط الخام، وكونت عدة أنهار من زيت النفط بطول سبعة كيلومترات في محمية افرونا التي يشقها أنبوب النفط.
وقالت مصادر متخصصة في تجارة النفط إن إسرائيل تستخدم التدفق العكسي للخط منذ سنوات وتضخ النفط الذي يتم تفريغه في عسقلان من قبل منتجين في أذربيجان وكازاخستان إلى ناقلات في خليج العقبة لنقلها إلى الصين وكوريا الجنوبية ودول أخرى في جنوب شرق آسيا. ويعمل بالتوازي مع خط الأنابيب الخام، أنبوب آخر لنقل منتجات بترولية مثل البنزين والديزل.
وفي تطور جيوسياسي وتاريخي في المنطقة الملتهبة من العالم، وجهت الإمارات، الحليف الاستراتيجي للجنرال عبد الفتاح السيسي، طعنة في ظهر الأمن القومي المصري وضربة مؤلمة لقناة السويس، حيث وقعت اتفاقاً مع شركة خطوط الأنابيب الإسرائيلية لنقل النفط من الإمارات إلى دول أوروبا عبر خط أنابيب إيلات - عسقلان باستثمارات تقدر بما بين 700 و800 مليون دولار، وذلك في 20 أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2020، أي بعد شهرين فقط من توقيع اتفاق لإقامة علاقات رسمية مع إسرائيل.
وكانت مجلة فورين بوليسي الأميركية الشهيرة قد نشرت في سبتمبر/ أيلول الماضي، أي بعد شهر واحد من توقيع اتفاق التطبيع وقبل إبرام الصفقة بشهر ونصف، تقريراً خطيراً كشفت فيه عن أن التطبيع الإماراتي مع إسرائيل سيفضي إلى تنفيذ مشروع ضخم لنقل النفط الخليجي لأوروبا عبر دولة الاحتلال بإعادة إحياء خط أنابيب النفط السري المشترك مع إيران.
وقالت إن المشروع سيكون منافسا لقناة السويس ولخط أنابيب سوميد، وستكون قناة السويس الخاسر الأكبر من المشروع الذي يوفر بديلاً أرخص لها. ولم تخفِ إسرائيل إمكانية وربما تعمدها الإضرار بقناة السويس بطريقة مباشرة، فقد نقلت المجلة عن الرئيس التنفيذي للشركة المنفذة للمشروع قوله إنه يعتقد أن خط الأنابيب يمكن أن يقضي على حصة كبيرة من شحنات النفط التي تتدفق الآن عبر قناة السويس.
النظام المصري لا ينزعج من المشروع الإماراتي الإسرائيلي، ما يعد تفريطا في الأمن القومي المصري
النظام المصري لا ينزعج من المشروع الإماراتي الإسرائيلي، ما يعد تفريطا في الأمن القومي المصري وانحرافا عن واجبات الولاء الوطني إلى دور وظيفي لخدمة الداعمين الإقليميين.
ففي فبراير/ شباط الماضي، صرح رئيس هيئة قناة السويس، الفريق أسامة ربيع، بأنه من غير المتوقع أن تتأثر حركة الملاحة عبر القناة بإعادة تشغيل خط أنابيب إيلات عسقلان، وأصدر رئيس الهيئة بيانا شدد فيه على أن حجم تجارة النفط الخام المصدر إلى أوروبا عبر القناة يمثل 0.61% فقط من إجمالي حركة التجارة المارة بالقناة.
بيان رئيس الهيئة ناقض تصريحاته العفوية عقب الإعلان عن المشروع مباشرة، فقد اعترف في مداخلة هاتفية مع قناة "الحدث" المصرية في يوم 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، بأن إنشاء خط أنابيب النفط إيلات - عسقلان الإسرائيلي يهدد الأمن القومي المصري وقناة السويس. واعتبر ربيع أن الأمر يأتي في إطار ترتيبات إقليمية تمس الأمن القومي لمصر.
وقال إن قناة السويس تشهد عبور أكثر من 107 ملايين طن من النفط سنويا، مقارنة بـ55 مليون طن محتمل عبورها عبر خط "إيلات - عسقلان"، بمعنى أن الخط سيستحوذ على 51% من كميات النفط التي تعبر قناة السويس حاليا، وفق ما جاء بموقع الخليج الجديد.
بل إن رئيس الشركة المنفذة للمشروع أكد بما لا يدع مجالا للشك نية الإمارات وإسرائيل الإضرار العمدي بمصالح مصر التي ستكون الخاسر الوحيد من المشروع بقوله إن هدفه هو أن يستحوذ خط أنابيب إيلات عسقلان على ما بين 12 في المئة و17 في المئة من أعمال النفط التي تمر عبر قناة السويس، التي بسبب قيود فيها يتم ضخ الكثير من النفط الخام الخليجي المتجه إلى أوروبا وأميركا الشمالية عبر خط أنابيب سوميد في مصر، وهو الخط الذي يعمل في اتجاه واحد فقط، ما يجعله أقل فائدة من منافسه الإسرائيلي الذي يمكنه أيضًا التعامل مع النفط الروسي والأذربيجاني المتجه إلى آسيا.
ومن الخدع التي ساقتها الإمارات للتسويغ لخطوة التطبيع ادعاؤها أن الهدف الأساسي من إقدامها على التطبيع مع إسرائيل هو وقف ضم أراض فلسطينية في الضفة الغربية، والتمكين لحل الدولتين.
يستحوذ خط أنابيب إيلات عسقلان على ما بين 12 في المئة و17 في المئة من أعمال النفط التي تمر عبر قناة السويس
وقد أثبت الواقع أنها بادرت بالاستثمار في خط أنابيب إيلات - عسقلان قبل أي محاولة منها لوقف الضم، وقبل بذل أي جهد دبلوماسي للتمكين لحل الدولتين، ولكن لخدمة المصالح الاقتصادية الإسرائيلية على حساب المصالح المصرية الاستراتيجية.
والإمارات تدرك أن 66% من صادرات النفط الخليجي إلى دول أوروبا تمر عبر قناة السويس وخط أنابيب سوميد الذي يربط البحر الأحمر بالإسكندرية والمملوك للسعودية وقطر ومصر والإمارات أيضا.
وأثر المشروع بالفعل على عائدات القناة. وكرد فعل مباشر على استثمار الإمارات في زيادة قدرات المشروع، تقدم هيئة القناة تخفيضات تصل إلى 75% على رسوم العبور لناقلات النفط العاملة بين الخليج الأميركي وشرق آسيا، حتى يونيو/ حزيران المقبل على الأقل، ما يقلل من الرسوم المفروضة على السفن ذات الحجم القياسي إلى 99 ألف دولار بدلاً من 397 ألف دولار.
ورغم ذلك، فإن ميناء عسقلان الذي طورته الإمارات سيكون منافسا شرسا لقناة السويس، فهو يستقبل ناقلات بحجم 300 ألف طن، وينقل 1.3 مليون برميل يوميا، ما يفوق قدرة القناة على استيعاب هذا النوع من الناقلات.
الحكومة المصرية تدرك خطورة المخطط الإماراتي ــ الإسرائيلي على مستقبل قناة السويس، ولكنها لم تتحرك للدفاع عن الأمن القومي المهدد بمشروع التطبيع الإماراتي.
بل إن المنظمات البيئية الإسرائيلية كانت أكثر حرصا على مصالحها البيئية من حرص مصر على مصالحها السيادية، فطالبت بإلغاء الصفقة وحذّرت من تأثيرها على تلوث خليج إيلات الذي سيستقبل الناقلات التي ستنقل النفط الإماراتي إلى إيلات، ليتم نقله إلى عسقلان ومنها إلى أوروبا.
أما النظام المصري فلم يكلف نفسه عناء مراجعة الحليف الإماراتي وثنيه عن سياسته المتهورة في المنطقة، بل بارك مشروع التطبيع وما يحويه من خداع بدأ ولن ينتهي.