قبل أن تُدخل الحكومات والأنظمة الحاكمة دولها في حائط الفوضى وعدم الاستقرار المالي والاقتصادي والسياسي، وربما الإفلاس والتعثر المالي وثورات الجياع، لا بد أن تأخذ العبرة مما حدث في لبنان خلال العامين الماضيين، والآن من سريلانكا التي تواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ أكثر من 70 عامًا.
فما يحدث في هذه الدولة الآسيوية المنهارة، والتي دخلت في حالة انهيار اقتصادي ومالي وفوضى سياسية شاملة، منذ توقفها في شهر مايو الماضي عن سداد ديونها الخارجية لأول مرة في تاريخها، هو رسالة تحذير قوية لكل حكومات الدول التي تتلكأ في معالجة الأزمات المالية والاقتصادية التي تمر بها، فترحيل الحلول يمكن أن ينقل هذه الدول بسرعة من حالة الاقتصادات الهشة إلى مرحلة التعثر المالي والانهيار الاقتصادي وربما الوصول بسرعة إلى حالة الإفلاس.
كما أن ما يحدث في سريلانكا رسالة صارخة للحكومات التي لا تزال تعتمد أساليب تقليدية وفاشلة في معالجة الأزمات المالية والمعيشية، ومنها الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي مجددا، وتطبيق روشتاته السامة والفاشلة، والاعتماد على القروض الخارجية والأموال الساخنة في تدبير النقد الأجنبي وعلاج شح السيولة وعجز الموازنة وتمويل الواردات وسداد أقساط الديون والأجور والرواتب.
الدول التي تستسهل الاقتراض الخارجي بلا ضوابط من دون أن تكون لديها تدفقات نقدية وقدرة على السداد مصيرها قاتم
الدرس الأول من تجربة سريلانكا هو أن الدول التي تستسهل الاقتراض الخارجي بلا ضوابط، وتغترف الدولارات من بقاع الأرض، من دون أن تكون لديها تدفقات نقدية محددة وقدرة على سداد أعباء تلك الديون، قد يكون مصيرها هو مصير الدول الآسيوية في حال حدوث أزمة مالية داخلية أو خارجية عنيفة وطارئة، فديون سريلانكا تجاوزت 45 مليار دولار، وعند مواجهة أول أزمة مالية، عجزت عن سداد أعباء تلك الديون، وبعدها فشلت في تدبير النقد الأجنبي والحصول على قروض جديدة لتمويل واردات الوقود والأغذية.
الدرس الثاني هو أن الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي وغيره من الدائنين الدوليين يعقد الأزمات المالية داخل الدول ولا يحلها، فروشتة ومطالب الصندوق تثير أكثر غضب الشارع، وتزيد الأزمات المعيشية تعقيداً، وترهق إيرادات الدولة، وتأتي على حساب مخصصات الصحة والتعليم وأسعار السلع الأساسية من وقود وأغذية لصالح سداد أعباء الديون، وبالتالي، فإن الاعتماد الأول يكون على الموارد الذاتية للدول، لا القروض من هنا أو هناك، أما روشتة الصندوق فهي سم قاتل وتثير القلاقل أكثر مما تفيد الاقتصادات الوطنية.
أما الدرس الثالث فهو أن الدول ذات السلطة الديكتاتورية والحكم الشمولي لن تكون قادرة على إقناع المواطن بالصبر والتحمل كما حدث في سريلانكا، حيث ضرب رجل الشارع بنصائح السلطة الحاكمة عرض الحائط عندما طالبته بشد الحزام والتحمل لبعض الوقت.
الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي وغيره من الدائنين الدوليين يعقد الأزمات المالية
فالشارع لن يتعاطف مع حكومة لا تشعر بمعاناته وجوعه، ولا يقتنع بنصائح سلطة تطالبه بالتقشف، في حين تهدر موارد الدولة على أوجه إنفاق لا تمثل قيمة مضافة للاقتصاد أو أولوية للمواطن. ولا يستمع لحكومة لا تبرر للمواطن إساءتها استخدام المال العام.
وما حدث في سريلانكا أكبر دليل، حيث أجبرت الأزمة المالية، التي تطورت إلى اضطرابات سياسية واحتجاجات، الرئيس غوتابايا راجاباكسا (73 عاماً) الذي يحكم البلاد منذ عام 2019 وأحد أفراد عائلة هيمنت على الحياة السياسية في البلاد لعقود، على الهروب إلى الخارج، بل جرى احتلال قصره وملاحقة حكومته ورموز نظامه.
أما الدرس الرابع فهو موجه للدول التي تعتمد على مورد واحد في الايرادات الدولارية، فسريلانكا كانت تعتمد إلى حد كبير على قطاع السياحة، وعندما تعثر القطاع بسبب انعدام الأمن وجائحة كورونا، تهاوت إيراداته وفقد نحو مليوني فرصة عمل، ودخلت الدولة في أزمة شح سيولة، ولم تجد ما يمول واردات القمح والأغذية والبنزين والسولار والأدوية.
أما الدرس الخامس فيتلخص في أن الأسواق الناشئة والدول النامية بشكل عام باتت أكثر حساسية للتطورات العالمية من مخاطر جيوسياسية وأوبئة، وعرضة لأي مخاطر في ظل أزمة اقتصادية واسعة النطاق وتضخم جامح يضرب معظم الدول، ولذا، فإن تأثر هذه بمتغير مثل زيادة أسعار الوقود والأغذية ورفع سعر الفائدة الأميركية وتشديد السياسة النقدية من قبل البنوك المركزية بات أكبر من غيرها من دول العالم.
والدرس السادس يكمن في أن الدول التي تعتمد على غيرها في أمنها الغذائي يمكن أن تشهد اضطرابات في أي لحظة، وهو ما ذكره وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن صراحة يوم الأحد الماضي حيث أعلن أن القيود التي تفرضها روسيا على صادرات الحبوب الأوكرانية قد تكون ساهمت في الاضطرابات في سريلانكا، معبرا عن القلق من أنها قد تتسبب بأزمة أخرى.
الدول التي تعتمد على غيرها في أمنها الغذائي يمكن أن تشهد اضطرابات في أي لحظة
والدرس السابع هو أن المؤسسات المالية الدولية تتردد في مساعدة الدول عندما تعاني من أزمات مالية، فسريلانكا كانت بحاجة إلى ما لا يقل عن 5 مليارات دولار خلال الأشهر الستة المقبلة، من أجل شراء المواد الأساسية مثل الغذاء والوقود، لكن هذه المؤسسات لم توفر هذه الأموال في ظل حالة الضبابية التي تمر بها البلاد وخوفا من عدم سدادها.
والدرس الثامن والأخير يكمن في أن زيادة الحكومات أسعار السلع والخدمات لن يعالج الأزمات الاقتصادية والمالية، فسريلانكا رفعت أسعار الوقود والفائدة عدة مرات، وأوقفت طباعة البنكنوت، ولجأت إلى روسيا والصين لحل أزمتها المالية وتزويدها بالوقود، ورغم ذلك تهاوت تلك الإجراءات أمام بركان الشارع وثورة الجياع.
والحل يكمن في الإدارة الكفء لموارد الدولة ومكافحة الفساد والاحتكارات وتوفير الحكومة احتياجات المواطن الأساسية من صحة وتعليم ووقود ومواد غذائية بتكلفة مناسبة خاصة في وقت الأزمات، وتخفيف الأعباء عن المواطن مثل خفض الضرائب وزيادة الرواتب وخلق فرص عمل وغيرها.
دروس سريلانكا الثمانية ليست موجهة فقط إلى قائمة الدول الـ17 الواردة في قائمة مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني، وتتوزع ما بين حالات إفلاس قائمة أو إفلاس محتمل، ولا تقتصر فقط على قائمة الدول التي تواجه أزمات مالية وربما ستعاني من الفشل في خدمة ديونها، وعددها زاد إلى 23 دولة، لكن قد تمتد لما هو أكثر من ذلك بكثير، فحسب تقديرات صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، فإن هنالك 74 دولة من الدول ذات الدخل المنخفض والدول الفقيرة تواجه احتمال التخلف عن خدمة ديون قيمتها 35 مليار دولار خلال العام الجاري 2022.