"كأنك يا أبو زيد ما غزيت"، هذا المثل الوارد في السيرة الهلالية ينطبق حرفياً على الحالة اللبنانية الآن، فقد تم، اليوم الخميس، تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة اللبنانية للمرة الرابعة.
وفي أول تصريح له عقب تكليفه، خرج الحريري قائلا "أتوجه إلى اللبنانيين الذين يعانون الصعوبات إلى حد اليأس، بأنني عازم على الالتزام بوعدي المقطوع لهم، بالعمل على وقف الانهيار الذي يتهدد اقتصادنا ومجتمعنا وأمننا، وعلى إعادة إعمار ما دمره انفجار المرفأ الرهيب في بيروت".
الحريري هنا يعرف قبل غيره أن هذه الوعود هي مجرد دخان في الهواء، وأنها لن تتحقق طالما ظلت تركيبة الحكم الحالية في لبنان على حالها، وطالما ظلت تلك النخبة الفاسدة تدير مقاليد الأمور في البلاد وتساعد في تهريب أموال اللبنانيين إلى الخارج، أو على الأقل تغض الطرف عن ناهبي مليارات الدولارات من المال العام وغاسلي الأموال القذرة عبر عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتجارة السلاح.
ما الجديد الذي سيقدمه الحريري للبنانيين هذه المرة ولم يقدمه في السنوات السابقة التي تم تكليفه خلالها بتشكيل 3 حكومات؟
وإذا كان الشعب قد ثار عليه وعلى سياسات وإخفاقات حكوماته في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2019 واتهمها بالفساد ونهب المال العام والتغاضي عن تهريب الأموال إلى الخارج، والفشل الاقتصادي الذي أوصل البلاد إلى حالة التعثر المالي والتوقف عن سداد الديون الخارجية، فما الجديد الذي سيفعله رئيس كتلة المستقبل في الملفات المالية والاقتصادية والمعيشية المعقدة والمزمنة الحالية ولم ينجح فيه على مدى 3 حكومات شكلها منذ العام 2009؟
وإذا كان الحريري قد فشل بامتياز في مهمته الرسمية على مدى أكثر من 11 عاما، فهل سينجح في هذا الوقت الصعب والظرف الحساس والذي وصلت فيه البلاد إلى مرحلة الانهيار الاقتصادي والمالي، والسطو على أموال المودعين، وفقدان الليرة نحو 80% من قيمتها خلال أشهر قليلة؟
بدلا من محاكمة الحريري وكل النخب الحاكمة في لبنان على الإخفاقات الاقتصادية المتواصلة التي جعلت أكثر من نصف عدد السكان ما بين فقراء ومعدمين، والشعب يعيش أوضاعا معيشية متردية مع انتشار البطالة وغلاء الأسعار، يتم تكليفه بولاية رابعة لتواصل حكومته تدمير ما تبقى من مقومات الاقتصاد وموارده المحدودة، وبالتالي يدمر ما لم يدمر في السنوات السابقة.
وبدلا من محاكمة حكومات سعد الحريري السابقة ومحاسبتها على تهم نهب أموال اللبنانيين وضياعها، وانهيار العملة الوطنية (الليرة)، وتآكل المدخرات الوطنية، والتستر على قضايا الفساد الضخمة، يتم الآن مكافاته على تلك الإخفاقات بتكليفه بتشكيل الحكومة للمرة الرابعة.
الرهان على نجاح الحريري في مهمة إنقاذ الاقتصاد المتعثر والمأزوم وإعادة إعمار بيروت هو رهان خاسر طالما أنه خضع لنظام المحاصصة والابتزاز السياسي والمواءمات مع زعماء الطوائف، واستجاب لمطلب الكتلة الشيعية بأن يكون وزير المالية من بين المنتمين لها، وطالما أنه تمسك برياض سلامة محافظا لمصرف لبنان المركزي، وهو الذي تدور عليه أكثر من علامة أستفهام، وطالما أنه اعتبر أن الاقتراض الخارجي من صندوق النقد الدولي ودول مؤتمر "سيدر" وغيره هو الخيار الوحيد لإنقاذ البلاد ماليا وعودته إلى سوق السندات الدولية.
الحريري لا يملك مفتاح إنقاذ لبنان، اقتصادا ومصارف وأحوال معيشية، كما يتصور البعض، وإذا أراد أن ينجح، فليبرهن أولا على ذلك بجديته في مكافحة الفساد المستشري في البلاد وترعرع في عهده، واتخاذ خطوات ملموسة في ملف إعادة الأموال التي نهبتها النخب الحاكمة الفاسدة إلى خزانة الدولة، ومحاكمة أباطرة الفساد المتورطين في مشروعات منها مطار رفيق الحريري ومرفأ بيروت وإهدار أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والتلاعب في مناقصات المستشفيات والاتصالات والصرف الصحي والاعتداء على المال العام وغيرها، وبعدها يراهن على إمكانيات الاقتصاد اللبناني وتحويلات المغتربين وتنشيط السياحة واستقطاب الاستثمارات الخارجية ورؤوس الأموال العربية والأجنبية، وكل ذلك يحتاج إلى مناخ ثقة وتقليل المخاطر السياسية والاقتصادية، وقبلها قبول الشارع، ولا أظن أن الحريري سيوفر هذا المناخ أو يحظى برضا المواطن الذي ثار عليه قبل عام.