أما السؤال الثاني فهو: لماذا لا يزن الوزير العربي كلماته، خاصة إذا كان موقعه حساسا، وذلك قبل أن يتلفظ بها ثم يندم عليها، وخاصة أن زلة اللسان تلك قد تكلفه منصبه، وربما قد تقوده لغياهب السجون، كما حدث لعدد من الوزراء خلال فترة مبارك في مصر.
يوم 19 إبريل/ نيسان الماضي، خرجت علينا الوزيرة التونسية لمياء الزريبي بتصريحات لافتة وشجاعة كشفت فيها عن وجود خطة لدى الحكومة التونسية لإجراء خفض تدريجي في قيمة العملة المحلية أمام العملات الرئيسية.
وأخذت الوزيرة التونسية "حبوب الشجاعة" حينما راحت تنتقد تجربة مصر في تعويم عملتها الوطنية، وتحذر من تكرار السيناريو المصري في بلادها، حيث قالت إن "الانزلاق الكبير والمفاجئ للدينار، ستكون له تداعيات أبرزها التضخم، مثلما حدث في مصر".
وتعاملت أسواق المال التونسية والعالمية بمنتهى الجدية مع تصريحات الوزيرة لعدة أسباب، منها أنها المسؤولة الأولى عن إدارة السياسة المالية التونسية بحكم منصبها الوزاري، والثاني هو أن الجميع توقع أن تكون التصريحات موزونة بميزان من ذهب، وخاصة أن الوزيرة مصرفية محترفة حيث رأست مجالس إدارة عدة بنوك قبل تقلدها منصبها، كما أنها تتحدث في قضية بالغة الحساسية.
وعقب إطلاق الوزيرة التونسية تصريحاتها بواشنطن، قامت الدنيا ولم تقعد، واستحضر التونسيون على الفور تجربة مصر القاسية في تعويم عملتها، الجنيه، وما أعقبه من ارتفاعات قياسية في الأسعار وتجاوز معدل التضخم حاجز 30% خلال الأشهر القليلة الماضية، وتآكل المدخرات الوطنية، وزيادة حدة الفقر داخل المجتمع واختفاء الطبقة المتوسطة، وانتشار البطالة وإغلاق مئات المصانع وإفلاس العديد من الشركات.
وساد قلق شديد بين التونسيون وداخل الأسواق من حدوث خفض كبير لسعر الدينار التونسي، وهو ما يعني حدوث قفزات في أسعار مختلف السلع لاعتماد البلاد على الاستيراد لتغطية الجزء الأكبر من احتياجاتها السلعية، وزاد من حدة القلق ما شهده الدينار بالفعل من تراجع ملحوظ أمام العملات الرئيسية، ومنها الدولار واليورو.
وواكبت ذلك تحركات خطيرة داخل أسواق الصرف، حيث سارع تجار العملة للمضاربة على الدينار ليحقق المزيد من الخسائر، كما سارع مدخرون نحو تخزين الدولار وحبسه عن السوق مع وجود توقعات قوية بارتفاعه أمام العملة التونسية.
وتحرك قطاع كبير من الشباب التونسي لمحاصرة تداعيات تصريحات الوزيرة الخطيرة على عملة بلادهم، حيث قادوا حملات للمطالبة بمقاطعة السلع الأجنبية والإقبال على شراء المنتجات المحلية لتخفيف الضغط عن الدينار التونسي، كما دعا آخرون التونسيين أصحاب الأموال والمدخرات لعدم اكتناز الدولار وحماية عملتهم من الانزلاق نحو الهاوية، والحيلولة دون تكرار ما حدث لعملات عربية أخرى، منها الجنيه المصري والليرة السورية والريال اليمني والدينار العراقي.
واستشعر البنك المركزي التونسي الخطر، وبدأ على الفور في استخدام أبرز أسلحة السياسة النقدية حيث رفع سعر الفائدة على الودائع نصف في المائة بهدف تحفيز المدخرين على اكتناز أموالهم بالدينار وعدم الاندفاع نحو تحويل مدخراتهم للعملات الأجنبية، علما بأن هذه هي المرة الأولى التي ترفع فيها تونس سعر الفائدة منذ 3 سنوات، كما أن هذا الرفع يكلف الموازنة العامة ملايين الدولارات.
لكن كل هذه المحاولات وغيرها ذهبت سدى، حيث واصل الدينار تراجعه، كما لم تفلح تصريحات مسؤولين بصندوق النقد الدولي المطمئنة حيال وضع العملة التونسية في تهدئة مخاوف السوق والمتعاملين.
ولم يكن أمام الحكومة سوى إقالة الوزيرة من منصبها بعد أن أغضبت السوق والاقتصاد بسبب تصريحاتها غير المسؤولة والتي أدت لأن يهوي الدينار سريعا وسط توقعات بحدوث مزيد من تراجع قيمته، كما أغضبت الوزيرة حكومة مصر بسبب انتقادها التجربة المصرية في تعويم الجنيه، وما خلفته من كوراث على المجتمع.
حال الوزيرة التونسية ليس هو الأول من نوعه داخل المنطقة العربية، فهناك وزراء مالية واقتصاد واستثمار عرب بل ومحافظي بنوك مركزية أدت تصريحاتهم غير المسؤولة والمتهورة في بعض الأحيان إلى إلحاق أضرار جسيمة بعملات بلادهم وزيادة تهافت المدخرين على حيازة العملات الأجنبية والتخلي عن العملة الوطنية، والنتيجة النهائية اتخاذ قرار بتعويم العملة.
ويبدو أن بعض كبار المسؤولين العرب لا يدركون حساسية أسواق الصرف، وخطورة الحديث عن تحركات سعر العملات، ومن هنا يرتكب هؤلاء أخطاء فادحة وزلات لسان قد تكلفهم مناصبهم، والمثال على ذلك وزيرة المالية التونسية لمياء الزريبي التي أقالها رئيس الوزراء من منصبها مساء أمس.
على الحكومات العربية أن تعلم الوزراء وكبار المسؤولين متى يتكلمون، ومتى يسكتون، والفارق في الحديث بين سعر سلعة وسعر عملة، والفارق بين إدارة شركة أو محل تجاري وإدارة أسواق صرف وعملات.