بريطانيا مشغولة هذه الأيام بحدثين مهمين يكشفان إلى حد كبير مدى الشفافية التي تتمتع بها الدول الغربية، وقدرة الرأي العام على محاسبة كبار المسؤولين، حتى لو كان الأمر يتعلق بالملكة التي تحتفل هذه الأيام باليوبيل البلاتيني لجلوسها على العرش.
الحدث الأول يتعلق بالجدل الشديد حول تقديرات كلفة احتفالات الملكة إليزابيث باليوبيل البلاتيني، والثاني يتعلق بمحاكمة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أمام البرلمان حيث واجه اليوم الأثنين تصويتا على حجب الثقة، بسبب فضيحة (بارتي غيت).
ما يربط بين الحدثين هو أن الاحتفالات ومحاكمة جونسون تأتيان في وقت يواجه فيه مواطنو بريطانيا أزمات معيشية. كما يعيش الاقتصاد البريطاني اختناقات شديدة بسبب تداعيات 3 أزمات متلاحقة، جائحة كورونا وموجة التضخم وحرب أوكرانيا، وقبلها تبعات الخروج من الاتحاد الأوروبي "البريكست".
الاحتفالات ومحاكمة جونسون تأتيان في وقت يواجه فيه مواطنو بريطانيا أزمات معيشية ويعيش الاقتصاد البريطاني اختناقات شديدة
ومن هنا جاء السؤال عن الحدث الأبرز والأهم: من يتحمل كلفة احتفالات اليوبيل البلاتيني، بل توسع البعض في السؤال ليكون طرحه على النحو التالي: "من يتحمل تكاليف الإنفاق على العائلة المالكة في بريطانيا"؟
والملفت أن السؤال الأخير جاء رغم أن القانون البريطاني واضح ومحدد هنا وينص على أن مخصصات العائلة المالكة تأتي من موازنة الدولة، وأن النظام المتبع ينص على إخضاع مخصصات الأسرة المالكة لنفس التدقيق الرقابي مثل النفقات الحكومية الأخرى، من خلال مكتب التدقيق الوطني ولجنة الحسابات العامة. بل وتخضع ثروة الملكة والعائلة للرقابة الحكومية.
وعلى الرغم من أنه لا توجد حتى الآن أرقام دقيقة تقدر حجم الكلفة الحقيقية لاحتفالات اليوبيل البلاتيني لملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية، الذي أقيم بين 2 و5 يونيو/حزيران الجاري، إلا أن لجنة الاحتفالات في مصلحة الثقافة والإعلام والرياضة قدّرت الكلفة بنحو مليار جنيه إسترليني (أي ما يعادل نحو 1.26 مليار دولار).
وفي ظل ضخامة المبلغ جاء السؤال: لم كل هذه التكاليف في الوقت الذي يعاني فيه المواطن من غلاء غير مسبوق في أسعار السلع والخدمات ومنها البنزين والسولار والغاز المنزلي وكل أنواع الوقود، وكذا زيادات في فواتير الكهرباء والمياه والايجارات والمعيشة؟
ألا يتطلب الأمر تقشفا في ظل الخسائر الفادحة للاقتصاد والضربات العنيفة التي تلقتها الأنشطة ومنها قطاع الضيافة الذي خسر 140 مليار جنيه إسترليني في عامي الجائحة، كما وصلت خسائر السياحة إلى نحو 150 مليار جنيه؟
لم كل هذه التكاليف في الوقت الذي يعاني فيه المواطن من غلاء غير مسبوق في أسعار الوقود، وزيادات في فواتير الكهرباء والمياه والايجارات؟
في المقابل هناك من دافع عن الاحتفالات الضخمة ليس من منطلق الاحتفاء برمزية الملكة وضرورة تكريمها بعد أن اقترب عمرها من المائة، لكن حتى من منطق اقتصادي.
فاحتفالات اليوبيل البلاتيني أفادت قطاعات وأنشطة اقتصادية مثل السياحة والتسوق والخدمات، فالاحتفالات أعطت زخما لقطاع السياحة، وهو أحد أبرز مصادر الدخل في الدولة، وساعدت على تعافيه بسرعة.
وتزامن اليوبيل الملكي أيضا مع افتتاح خط سكك الحديد كروس رايل داخل لندن البالغة تكلفته نحو 19 مليار جنيه إسترليني، والذي من المتوقع أن يدعم مبيعات التجزئة في غرب لندن، وهي المبيعات المرشحة للوصول إلى 8.6 مليارات جنيه هذا العام.
وخلال احتفالات اليوبيل البلاتيني التي تعتبر الأولى في تاريخ بريطانيا نشطت المتاجر والمطاعم والفنادق وأعطت جرعة دعم للاقتصاد وإيرادات الدولة، كما رفعت من إيرادات المقاهي وأماكن الترفيه بمبالغ تتراوح بين مليار وملياري جنيه إسترليني، وفق صحيفة "ذا ميرور" الشعبية الشهيرة، كما شهدت الاحتفالات توزيع عشرات الآلاف من وجبات الغداء على المواطنين.
أما في الواقعة الثانية التي تتعلق بمحاسبة جونسون فقد أبدى العديد من نواب حزب المحافظين قلقهم من تأثير فضيحة (بارتي غيت) السلبية على صورة الحزب، خاصة أن بريطانيا تواجه مخاطر الركود وارتفاع أسعار الوقود والغذاء وفوضى السفر التي أحدثتها إضرابات لندن.
نواب بحزب المحافظين قلقين من تأثير فضيحة (بارتي غيت) على صورة الحزب، خاصة أن بريطانيا تواجه مخاطر الركود والتضخم
بغض النظر عن المبررات التي ساقها المدافعون عن ضخامة تكلفة الاحتفالات بالعيد الفضي للملكة، فإننا أمام حقيقة وهي أن الجهات المسؤولة في بريطانيا تعلن بشفافية عن الأرقام ولا تخفيها، وهناك رأي عام وصحافة حرة تلاحق وتسأل، وهناك مؤسسات تراقب.
وهناك سلطات تشريعية تحاسب أرفع مسؤول تنفيذي في الدولة وهو بوريس جونسون على سهرة قضاها مع رجال الدولة، في وقت كانت الحكومة تفرض قيودا على التجمعات بسبب كورونا، وهو الأمر الذي يفرق بين دول عريقة يحكمها القانون والنظام الديمقراطي والمؤسسات الرقابية، وبين دول تختفي فيها أساليب وأدوات المحاسبة.