التقطت الحكومة المصرية أنفاسها، بعد موافقة صندوق النقد الدولي، على قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار يصرف على دفعات، بمقتضى اتفاق مدته 46 شهراً، لمساعدتها في الخروج من أسوأ أزمة في النقد الأجنبي منذ سنوات طويلة، إذ تعوّل على هذه الموافقة للحصول على تمويلات من دول خليجية وجهات تمويل أخرى لتحسين الأوضاع، بينما يحذر خبراء اقتصاد من أثمان باهظة سيدفعها المصريون بفعل دوامة الديون.
ويتيح قرار صندوق النقد الدولي، الصادر في وقت متاخر من مساء الجمعة، صرف دفعة فورية من القرض تعادل 347 مليون دولار، للمساعدة في تلبية احتياجات ميزان المدفوعات ودعم الموازنة. بينما تشير البيانات الرسمية إلى حاجة البلاد إلى أكثر من خمسة أضعاف إجمالي القرض الجديد لمواجهة الفجوة التمويلية الخارجية خلال فترة الـ46 شهراً التي يصرف خلالها القرض.
لكن صندوق النقد قال في بيان له إن "التسهيل الممدد" لمصر يُتوقع أن "يشجع على إتاحة تمويل إضافي لصالح مصر بقيمة 14 مليار دولار تقريباً من شركائها الدوليين والإقليميين، شاملاً موارد تمويلية جديدة من دول مجلس التعاون الخليجي وشركاء آخرين من خلال عمليات البيع الجارية للأصول المملوكة للدولة وقنوات التمويل التقليدية من الدائنين الثنائيين ومتعددي الأطراف".
شروط صندوق النقد
وتحمل موافقة الصندوق على القرض شروطاً عدة لخصها الصندوق في أربع نقاط هي أولاً: "التحول الدائم إلى نظام سعر الصرف المرن لتعزيز الصلابة في مواجهة الصدمات الخارجية وإعادة بناء الاحتياطيات الوقائية الخارجية".
وثانياً: تنفيذ سياسة نقدية تهدف إلى تخفيض معدلات التضخم تدريجاً، وثالثاً الضبط المالي وإدارة الدين لضمان تراجع نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي واحتواء إجمالي الاحتياجات التمويلية، مع زيادة الإنفاق الاجتماعي وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الفئات الضعيفة.
ورابعاً: "إجراء إصلاحات هيكلية واسعة النطاق لتقليص بصمة الدولة، وضمان المنافسة العادلة بين جميع الكيانات الاقتصادية، وتسهيل تحقيق النمو بقيادة القطاع الخاص، وتعزيز الحوكمة والشفافية في القطاع العام".
واعتبر فخري الفقي رئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب، والمدير التنفيذي الأسبق في صندوق النقد، أن الاتفاق بداية انفراجة، وإزاحة حالة عدم اليقين التي تواجه الأسواق.
وقال الفقي في حديث مع "العربي الجديد" إن "الاتفاق أظهر الضوء في آخر النفق الذي يمر به الاقتصاد، وفتح الآمال أمام المستثمرين المصريين والعرب لاستئناف أعمالهم، مع تعهد مصر بإلغاء قيود الاستيراد التي أقرها البنك المركزي في مارس/آذار الماضي، قبل نهاية العام، وتطبيق سعر صرف مرن، وإجراء إصلاح مالي في موارد الموازنة العامة، وهيكلي يضمن ضبط الأداء الاقتصادي والدفع بالقطاع الخاص إلى ريادة الأعمال.
وأشار إلى أن القرض موزع على 8 شرائح، تدفع كل 3 أشهر، لتبلغ نحو 3 مليارات، خلال 4 سنوات، لافتاً إلى أن الصندوق تعهد بجانب القرض بصرف مليار دولار من صندوق الاستدامة، مطلع الربع الأول من عام 2023، بفائدة 2%، ويسدد على 20 عاماً، كذلك ستُباع أصول مملكة للدولة، منها المصرف المتحد للصندوق السيادي السعودي بمبلغ 600 مليون دولار.
ورأى الفقي أن الدولار سيشهد خلال المرحلة المقبلة هدوءاً في السوق الموازية، متوقعاً أن تختفي هذه السوق خلال 6 أشهر، وهو الموعد النهائي الذي حددته الحكومة مع صندوق النقد، للقضاء على حالات تكدس البضائع في الموانئ ودخول السلع الاستراتيجية.
وأوضح أن المراجعة الدورية التي سيقوم بها صندوق النقد للموازنة وتقرير الأداء الاقتصادي، ستكون الضامن لرجال الأعمال والشركاء الدوليين، بمدى التزام الدولة الاتفاق وتحقيق المرونة في سعر الصرف وتلبية حاجة المستوردين، مع التقدم في مشروعات هيكلة الاقتصاد، بما يعتبر عاملاً مهماً أمام المستثمرين لإزالة حالة عدم اليقين التي أصابت الأسواق خلال الفترة الماضية.
رفع أسعار الفائدة
وذكر أن البنك المركزي سيرفع خلال الأسبوع المقبل الفائدة على الجنيه، بهدف رفع مستواها عن معدلات التضخم وإطلاق الحرية للبنوك لإصدار شهادات ادخار جديدة بقيم أعلى من المعدلات الحالية (تبلغ 18%) لدفع حائزي الدولار إلى التوقف عن التعامل مع السوق السوداء، أو بيعه، للحاق بفرص شراء الودائع الجديدة.
وتهدف الإجراءات، وفقاً للفقي الذي شغل عضوية مجلس البنك المركزي لفترة طويلة، إلى سحب السيولة الزائدة بالأسواق، وتباطؤ معدلات التضخم، لتنخفض تدريجاً من قرب 20% إلى 10% في المتوسط السنوي في يوليو/ تموز المقبل، وتزداد انخفاضاً إلى 8%، في العام المالي 2023-2024 (يبدأ في يوليو/ تموز المقبل)، مع توقف ارتفاع سعر الصرف وفقاً لقوة العرض والطلب، وزيادة موارد الدولة من العملة الصعبة، وصرف علاوات اجتماعية للموظفين والعمال، ودمج 5 ملايين أسرة في ما يعرف ببرنامج "تكافل وكرامة".
في المقابل، حذر الخبير الاقتصادي مصطفى بدرة، من الإفراط في التفاؤل، من نتائج المفاوضات مع صندوق النقد، قائلاً في تصريح لـ"العربي الجديد" إن أزمة الصرف ما زالت مستمرة، ولن تتوقف خلال أيام، لأن فكها يحتاج إلى تدبير سيولة كبيرة، وهو أمر يحتاج فترة زمنية لضبط سوق الصرف.
وأشار بدرة إلى أن العالم على أعتاب عام جديد، حيث تحتاج الشركات الدولية إلى إعادة أرباحها من السوق المحلية، بالعملة الصعبة، ما يسبب المزيد من الضغوط على الدولار.
وأضاف أن "زيادة الالتزامات المالية للدولة والشركات، ستدخلنا في حالة من الركود التضخمي"، لافتاً إلى أن المؤشرات التي تخرج من الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية، وأسواق الصاغة تظهر وجود ركود في المبيعات، تتضح تماماً في سوق العقارات والسيارات، حيث تزيد أسعار المنتجات، ولا تقابلها حالة شراء موازية".
ويتخوف المصريون من صدمات تضخمية أكبر مع ترك الجنيه الضعيف لموجات الدولار العاتية، إذ تعرضت البلاد لغلاء غير مسبوق منذ إبرام اتفاق القرض الأول خلال عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي مع صندوق النقد نهاية 2016، والذي تبعته عدة قروض مع الصندوق الذي طالما روج لصلابة الاقتصاد المصري وقدرته على تخطيه الأزمات مع كل اتفاق، بينما تأتي النتائج على غير المأمول.
سعر صرف مرن
واعتبرت كريستالينا غورغييفا، مديرة صندوق النقد، أن "تحول مصر الدائم إلى نظام سعر الصرف المرن سيؤدي إلى التخفيف من حدة الصدمات الخارجية ومنع ظهور الاختلالات مجدداً، كذلك سيسمح للسياسة النقدية بالتركيز على خفض التضخم تدريجاً".
وأضافت أن "الضبط المالي سيضمن استدامة القدرة على تحمل الديون، بينما ستسهم زيادة الإنفاق الاجتماعي في حماية الفئات الضعيفة، كذلك ستساعد الإصلاحات الهيكلية في تقليص بصمة الدولة وضمان المنافسة العادلة بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز النمو بقيادة القطاع الخاص، وتعزيز الحوكمة والشفافية".
ووفق أرقام البنك المركزي المصري، وصل حجم الدين الخارجي فقط إلى نحو 155.7 مليار دولار بنهاية يونيو/ حزيران الماضي، ليقفز بنحو 5 أضعاف، مقارنة بما كان عليه قبل 10 أعوام، حيث بلغ في نهاية يونيو/ حزيران 2012 نحو 34.4 مليار دولار.
ويتوقع محللون اقتصاديون خفضاً جديداً فى سعر صرف الجنيه أمام الدولار للاقتراب من السعر السائد بالسوق الموازية والذي وصل إلى 37 جنيهاً. وسبق أن خفضت مصر سعر الجنيه لهذا الغرض مرتين فقط منذ بداية العام الجاري، لكن سعر الدولار في السوق السوداء يواصل الصعود، لتتسع الفجوة مع سعر الصرف الرسمي الذي استقر أخيراً عند 24.6 جنيهاً للدولار الواحد.
وفي مارس/ آذار الماضي، خفضت مصر قيمة الجنيه بنسبة 16%، ثم أعقب ذلك تخفيض آخر بنسبة 18% في أكتوبر/ تشرين الأول، لتصل نسبة انخفاض العملة الوطنية منذ بداية العام إلى نحو 57%.
وأدى خفض الجنيه إلى ارتفاع فاحش لأسعار السلع الغذائية وغيرها وسط اختفاء للكثير من المنتجات، ولا سيما المستوردة من الأسواق. وأظهرت بيانات صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ارتفاع تضخم أسعار المستهلكين في عموم البلاد إلى 19.2% الشهر الماضي، مقارنة بالفترة نفسها من 2021، مسجلاً أعلى مستوى له منذ ديسمبر/ كانون الأول 2017 عندما سجل 21.9%، بينما يشكك خبراء اقتصاد في هذه البيانات، مشيرين إلى التضخم الفعلي أعلى بكثير من المعدلات المعلنة حكومياً.
وعزا الجهاز صعود التضخم إلى زيادة الأسعار في قطاعات جاء في مقدمتها قسم الطعام والمشروبات الذي قفزت أسعاره بنسبة 30.9% على أساس سنوي، والرعاية الصحية بواقع 12.4%، والنقل والمواصلات 16.6%، والثقافة والترفيه 32.2% بالمائة، والمطاعم والفنادق 30.1%.