منذ انطلاق نسخة كأس العالم 2022 وأنا أنتقل من مكان إلى آخر لمشاهدة المباريات وسط الناس الذين لم يحالفهم الحظ بالتواجد داخل ملاعب مونديال قطر الفخمة والمكيفة، أو الذين يكرهون زحام الملاعب والانتظار طويلا في طوابير الدخول والخروج كما هو حالي.
لكن يبدو أن زحاما آخر كان ينتظرني ومعي آلاف غيري، زحام منظم وحضاري وبلا ضجيج. هذا الزحام كان مقره الشوارع والأماكن العامة ومناطق المشاهدين التي انتشرت في العديد من الأماكن داخل العاصمة الدوحة وخارجها، حيث توجد شاشات ضخمة تتيح مشاهدة مباريات كأس العالم بسلاسة وبلا تكلفة.
الآلاف يتدفقون يوميا على ساحة كتارا الشهيرة المليئة بفعاليات ثقافية وأسواق شعبية، الكل جاء للاستمتاع بمشاهدة مباراة كرة القدم الساحرة
في حي كتارا الثقافي الشهير نجلس جميعا على الأرض لنشاهد مباراة البرتغال وسويسرا، وفي الشاشة المقابلة الواقعة على بعد 300 متر يجلس مئات آخرون لمشاهدة مباراة أخرى تذاع في نفس الوقت.
وما بين الشاشتين العملاقتين يوجد مئات المشاهدين الذين يشاركوننا افتراش الأرض النظيفة، أو يظلون واقفين لمدة تقترب من المائة دقيقة، وهناك عدد آخر ربما أكبر يجلس على حوائط خرسانية ودكك خشبية وكراسي منتشرة في المكان ويكتفي بمتابعة المباريات من السماعات المنتشرة في المكان وعلى الشاطئ.
آلاف المواطنين والوافدين يتدفقون يوميا على ساحة كتارا الشهيرة المليئة بفعاليات ثقافية وأسواق شعبية، الكل جاء للاستمتاع بمشاهدة مباراة كرة القدم الساحرة.
الكل جاء يشجع الفريق الذي يحبه دون تعصب مقيت وأعمى، الكل يحترم خصوصية الآخر، عندما تنتهي المباراة ينصرف الجميع في هدوء ونظام ملحوظين دون توجيه من أحد.
الجميع يترك المكان نظيفا كما وجدوه، لا قمامة على الأرض، ولا بقايا لب وترمس وفشار وأغلفة الشيكولاتة والحلويات، بل الكل يحرص على ترك المكان نظيفا ومرتبا.
في درب لوسيل، "شانزلزيه الدوحة"، يتكرر المشهد، فهناك شاشة كبيرة في نهاية الشارع المكتظ بالمشجعين والذي تحرسه 4 فنادق عملاقة، شاشة تم نصبها على بعد خطوات من كورنيش الخليج.
الكل يفترش الأرض جالسا أو قاعدا، المكان يتسم بالهدوء الشديد لا يقطعه سوى أصوات المشجعين التي تحفز لاعب الأرجنتين الشهير ميسي على تصويب هدف في شباك المكسيك، أو هز شباك أستراليا، كما كان يقطعه صوت الماء القادم من نافورة قريبة من الشاشة، أو صوت مذياع داخلي يعلن عن برنامج ترفيهي وعروض بحرية عقب انتهاء المباراة.
في كل المواقع التي زرتها لا حادثة تحرش واحدة، ولا مضايقات لسيدة ولا شكوى من امرأة، بل ولا تدخين في معظم الأماكن، الكل يحرص على خصوصية الآخر
يتكرر المشهد في أماكن كثيرة من أبرزها مناطق المشجعين المنتشرة على كورنيش الدوحة وسوق واقف وبالقرب من فندق شيراتون الدوحة والوكرة وفي مناطق أخرى.
ففي منطقة لوسيل توجد منطقة للمشجعين مزودة بثلاث شاشات عملاقة. صحيح أنها مليئة بالمقاهي والمطاعم لكن معظم روادها يفضلون الجلوس على الأرض لمشاهدة مباراة الولايات المتحدة مع إنكلترا، أو السعودية مع الأرجنتين، أو إيران مع ويلز. الكل متحمس ويشجع بحرارة لكن دون مضايقة أحد بحركة أو فعل أو لفظ خادش.
في كل المواقع التي زرتها لا حادثة تحرش واحدة، ولا مضايقات لسيدة ولا شكوى من امرأة، بل ولا تدخين في معظم الأوقات والأماكن، الكل يحرص على خصوصية الآخر، عندما يجلس الجميع على الأرض يترك كل شخص مسافة بينه وبين الجالس بجواره. قرار اختياري لا أحد يفرضه عليه.
يتكرر المشهد داخل ملاعب مونديال قطر، حيث لا حادثة تحرش واحدة، رأينا كيف خرجت مشجعات أجنبيات على شاشات قنوات فضائية أجنبية وهن يروين اختفاء العصبية والمضايقات التي تعرضن لها في نسخ من مونديالات سابقة من كأس العالم سواء في إنكلترا أو غيرها. وكيف تمتعن بأمان لهن ولأسرهن لم يتوفر من قبل. كما أن هذا هو كأس العالم الأول الذي لم يتعرضن خلاله لتحرش لفظي. ساعد في ذلك حظر تناول الخمور داخل وخارج الملاعب.
في مونديال روسيا 2018 رأينا كيف أن وسائل الإعلام رصدت حالات تحرش جنسي لمشجعات في الملاعب والشوارع
صورة مغايرة لما حدث في نسخ سابقة لكأس العالم، ففي مونديال روسيا 2018 رأينا كيف أن وسائل الإعلام رصدت حالات تحرش جنسي لمشجعات في الملاعب والشوارع، بل ورأينا حالات تحرش على الهواء مباشرة، وكيف أن ضحايا روسيات ومن جنسيات أخرى تعرضن لتحرش من المشجعين، وهناك مراسلات تلفزيونيات واجهن مضايقات أثناء البث.
بل إن أرقام منظمة "كرة قدم ضد العنصرية في أوروبا" ذكرت أن مونديال روسيا شهد نحو 300 حالة من أعمال التحرش والمضايقات في الشوارع مما شوه الصورة الإيجابية للبطولة. وقد تكرر المشهد في مونديالات سابقة عجت بحالات تحرش ومضايقات للسيدات.