فعلها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عندما قطع الغاز الطبيعي عن أوروبا بداية الأسبوع الجاري، في إطار الرد على الحرب الاقتصادية الشرسة التي يخوضها الغرب ضد موسكو منذ غزوها أوكرانيا نهاية شهر فبراير/شباط الماضي.
وأوقف بوتين إمدادات الغاز الروسية عن دول القارة، في إطار محاولته "تركيع" أوروبا اقتصاديا واستنزافها ماليا، وقبلها العمل على تجفيف الوقود الأزرق من خزانات دول القارة قبل قدوم فصل الشتاء، وهو ما يعني دخول أوروبا في شتاء قارس وانقطاعات في التيار الكهربائي وقفزات في فواتير الكهرباء والتدفئة وإفلاسات في الأنشطة الاقتصادية والمصانع وشركات الإنتاج، خاصة وأن البدائل المتاحة للقارة مكلفة مالياً في حال اللجوء للغاز الأميركي مثلا.
ومن الممكن أن يفعلها بوتين مع صادرات الخام الأسود الروسية ويوقف تصديره لأوروبا، حيث قال أمس الأربعاء إن موسكو ستتوقف عن إرسال شحناتها من الغاز والنفط إذا جرى فرض حد أقصى لأسعار إمدادات الطاقة الروسية.
بوتين يعمل على هدف أكبر، وهو تفكك دول الاتحاد الأوربي واندلاع ثورات شعبية ضد الحكومات التي فشلت في احتواء موجة التضخم
وكان الرئيس الروسي يرد بذلك على قرار دول مجموعة السبع الصناعية التي قررت بداية الأسبوع فرض سقف لأسعار النفط الروسي، في محاولة لضرب قدرة موسكو على تمويل الحرب في أوكرانيا.
وجاء رد موسكو حاسما وقاطعا وسريعا: "روسيا ستتوقف عن بيع النفط للدول التي تفرض سقوف أسعار على نفطها"، وهو ما تسبب في حدوث زيادة ملحوظة في أسعار النفط في الأسواق الدولية.
بل إن بعض بنوك الاستثمار العالمية الكبرى توقعت حدوث قفزة في أسعار النفط في المرحلة المقبلة، إذا ما نفذ بوتين تهديده، وهو أمر وارد في ظل عدم وجود أي بوادر لوقف حرب أوكرانيا، وهذا الأمر كارثي بالنسبة للدول المستهلكة للنفط، بما فيها أكثر من نصف الدول العربية.
بوتين يخوض معركة صفرية ضد الغرب الذي يصر على دفع الاقتصاد الروسي نحو الإفلاس والتعثر، واستنزاف موارد النقد الأجنبي خاصة من أبرز قطاع وهو صادرات النفط الذي يجلب للموازنة الروسية أكثر من 100 مليار دولار سنوياً، وهو ما يؤدي إلى تفتت روسيا وانهيارها في وقت لاحق، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي الذي تعرض وقتها لأزمة اقتصادية حادة عقب انهيارات في أسعار النفط وحرب نفطية شرسة قادتها دول خليجية.
بوتين يخوض معركة صفرية ضد الغرب الذي يصر على دفع الاقتصاد الروسي نحو الإفلاس، واستنزاف موارد النقد الأجنبي
وإذا كان الغرب يستنزف روسيا ماليا واقتصاديا ويجمد نصف احتياطياتها من النقد الأجنبي، ويحاول منعها من الاستفادة من قفزات أسعار النفط والغاز الأخيرة وحصد ثمار زيادة الإقبال العالمي على الطاقة، فإن بوتين يحاول في المقابل استنزاف الغرب، خاصة أوروبا والولايات المتحدة، واللتين تدعمان أوكرانيا بالأسلحة والمال.
الاستنزاف يأتي عبر زيادة تكاليف الحياة وأعباء المعيشة ودفع دول القارة نحو الوقوع في مصيدة الديون والركود التضخمي، وربما الإفلاس في وقت لاحق، خاصة للدول التي تعاني من أزمات مالية وضخامة في الدين الخارجي.
كما يعمل بوتين على هدف أكبر، وهو تفكك دول الاتحاد الأوربي واندلاع ثورات شعبية واجتماعية ضد حكوماتها التي فشلت في احتواء موجة التضخم وخفض أسعار السلع الأساسية، ولم تقدم الدعم الكافي للأسر في مواجهة زيادات فواتير الكهرباء والتدفئة والمواصلات.
بوتين ناجح حتى اللحظة في إدارة أزمة الطاقة والمعركة الاقتصادية بالكامل مع أوروبا والولايات المتحدة، حتى لو كلفه ذلك 10 ملايين دولار قيمة الغاز الذي يحرقه يوميا ويرفض تصديره لأوروبا، أو دفع الاستمارات الأجنبية للهروب من بلاده خوفا من المصادرة.
كما نجح في استنزاف أوروبا، مستغلا موجة التضخم وقفزات أسعار النفط والحبوب وتعطل سلاسل الإمدادات وتراجع معدل النمو الاقتصادي وزيادة تكاليف الإنتاج، وهو يدير المعركة الاقتصادية ضد الغرب بحرفية عالية، لكن ذلك لا يمنع من أن تلسعه واقتصاده النار، فإذا كانت موسكو قادرة على الاستغناء عن إيرادات الغاز، فإنها غير قادرة على الاستغناء عن إيرادات النفط التي تشكل عصبا مهما للاقتصاد الروسي.
هل الاقتصاد الروسي قادر على الاستغناء عن 100 مليار دولار قيمة صادرات النفط والغاز، خاصة مع تراجع الاستثمارات الأجنبية وتجميد 300 مليار دولار من احتياطياته؟
ووفق أحدث الأرقام، فإن قيمة واردات الاتحاد الأوروبي من الوقود الروسي منذ بداية الحرب في أوكرانيا تجاوزت قيمتها 85 مليار يورو، وألمانيا كانت أكبر مستورد للغاز الروسي بين دول الاتحاد، بقيمة 19 مليار يورو.
فهل الاقتصاد الروسي قادر على الاستغناء عن هذه المبالغ الضخمة، خاصة مع تراجع الاستثمارات الأجنبية وتجميد 300 مليار دولار من احتياطياته في البنوك الغربية؟