ما زال وباء كورونا يلقي بظلاله الثقيلة على الاقتصاد العالمي ويفاقم الاضطرابات المتعلقة بإنتاج الغذاء وارتفاع أسعار السلع الغذائية. وفي مطلع الشهر أطلقت الأمم المتحدة تحذيرا بسبب ارتفاع أسعار الغذاء في العالم بوتيرة أسرع ومستوى أعلى خلال العقد الماضي، مع استمرار زيادة تكلفة الغذاء على المستوى العالمي خلال 12 شهرا الأخيرة، وتأثر الإمداد العالمي مدعوما باضطراب الإنتاج الزراعي والنقل اللوجستي وقرارات الحماية الوطنية والتضييق على صادرات الأغذية تحت وطأة جائحة فيروس كورونا.
وفي مطلع الشهر، رصد مؤشر منظمة الأغذية والزراعة، فاو، التابع للأمم المتحدة، ارتفاع أسعار الأغذية في العالم بنسبة 39.7% في مايو/ أيار، عن مستواه في الفترة نفسها من العام السابق. ومثلت الزيادة أكبر زيادة من شهر إلى آخر منذ أكتوبر/تشرين الأول 2010. كما أنها شكلت الارتفاع الشهري الثاني عشر على التوالي في قيمة المؤشر الذي بلغ أعلى مستوى له منذ سبتمبر/أيلول 2011.
القمح، هي المادة الأساسية في إنتاج الخبز ولها أهمية استراتيجية على المستوى العالمي ومكانة سياسية في المنطقة العربية حيث كان الخبز محرك رئيس لثورات الربيع العربي خلال العقد الماضي وآخرها في السودان. وتعتبر مصر المتضرر الأكبر من ارتفاع أسعار القمح باعتبارها أكبر المستوردين في العالم منذ سنوات، وكذلك السعودية والجزائر ودول عربية أخرى.
وسجل مؤشر المنظمة لأسعار الزيوت النباتية ارتفاعًا قدره 7.8% في مايو. الزيادة سوف تضر المستهلك العربي خاصة في مصر، لأنها تستورد 95% من احتياجاتها من زيوت الطعام، بسبب تدمير محصول القطن الذي كان يسد حاجة البلاد تماما من الزيوت، كما ارتفعت أسعار جميع أنواع اللحوم.
الملاحظ أن فيروس كورونا تسبب في اضطراب سلاسل الإمداد والتوريدات الغذائية بشدة حول العالم، من الإنتاج إلى التجهيز والتصنيع والتوزيع.
وكانت تدابير الحماية التي اتخذتها الحكومات الوطنية للحد من انتشار فيروس كورونا وكذلك القيود التجارية والضرائب التي فرضتها الدول المنتجة للغذاء على صادراتها الغذائية، العاملان المحفزان لتغييرات جذرية في نظام الإمداد الغذائي وزيادة أسعار الغذاء على المستوى العالمي.
الملاحظ أن فيروس كورونا تسبب في اضطراب سلاسل الإمداد والتوريدات الغذائية بشدة حول العالم، من الإنتاج إلى التجهيز والتصنيع والتوزيع
روسيا مثلا، وهي أكبر الدول المصدرة للقمح وتتحكم في تحديد سعره، فرضت ضريبة نحو 91 دولاراً، على كل طن من صادرات القمح لتقليل الصادرات. وحددت حصة صادرات الحبوب، بما فيها القمح والشعير والذرة، بكمية 17.5 مليون طن، خوفا من ارتفاع أسعارها وتأثيرها على قدرة المستهلك على شراء الأغذية. القرار الروسي كان أحد أهم أسباب ارتفاع أسعار القمح بنسبة 30% عن أسعاره خلال العام الماضي.
وكذلك كان السبب في زيادة أسعار الذرة الصفراء، التي تدخل في تركيب الأعلاف اللازمة لإنتاج اللحوم وتشارك بنسبة 60% من تكلفة إنتاج الدواجن أو بروتين الفقراء، فرض قيود على التصدير في البرازيل، التي تعد ثالث أكبر منتج للذرة في العالم وثاني أكبر دولة في الصادرات، لتلبي زيادة الاستهلاك الوطني بكميات كبيرة واستخدامها في أعلاف الدواجن حيث أصبحت أكبر مصدر للحوم الدجاج في العالم في ظل خفض الإنتاج بسبب الجفاف هناك، بالإضافة لزيادة الطلب العالمي على الذرة الصفراء لإنتاج الدواجن.
أوكرانيا أيضا، وهي من أكبر الدول المصدرة للذرة الصفراء، قررت عدم زيادة حصة صادرات الذرة هذا العام عن 24 مليون طن، وذلك أيضا تحسبا لعدم زيادة الأسعار المحلية وسط دعوات منتجي الحيوانات والدواجن الوطنيين إلى تأمين كميات وفيرة من المنتج للحفاظ على استقرار أسعار الأعلاف، وبالتالي زادت أسعار الذرة على المستوى الدولي بنسبة تقترب من 90% عن أسعارها في العام الماضي.
الدول العربية سوف تعاني بشدة من تغيرات أسعار الذرة على أسعار اللحوم والدواجن، في ظل تراجع الإنتاج العربي في السنوات الأخيرة من هذه المادة الحيوية ليغطي 24% فقط من الاحتياجات، وفق آخر تقرير عن أوضاع الأمن الغذائي الصادر في سنة 2018 عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية.
الدليل على ذلك أن الزيادة في الأسعار الدولية للذرة الصفراء كانت أقل من 10% على أساس شهري، لكنها أدت إلى زيادة أسعار أعلاف الدواجن ولحومها والبيض بنسبة أكبر من 25% في كثير من الدول العربية خاصة السعودية ومصر والجزائر. الجدير بالذكر أن دولة السودان لديها ميزة نسبية في إنتاج الذرة يمكن أن تستغل في زراعة ملايين الأفدنة وتصديرها للدول العربية، ولكن الحكومات العربية والجامعة العربية مقصرة في ذلك.
دول العالم الغنية تعتبر الحبوب والزيوت واللحوم ومنتجات الألبان والسكر أغذية إستراتيجية يجب تأمين عناصر إنتاجها وتكوين مخزون استراتيجي يكفي استهلاك السكان لسنة واحدة على الأقل. هذه الأغذية هي نفسها التي تعاني الدول العربية جميعها من عجز في إنتاجها الأفقي وتخلف في إنتاجيتها الرأسية.
ولسوء الحظ تحقق دول المنطقة نسب اكتفاء ذاتي متواضعة للغاية في مجال الأغذية الاستراتيجية. فهي تستورد أكثر من 60% من احتياجاتها من القمح، و76% من الذرة، و55% من الأرز، و65% من السكر، و55% من الزيوت النباتية، بحسب تقرير أوضاع الأمن الغذائي العربي.
تكرار الأزمات الغذائية على مستوى الدول المنتجة مع الزيادة المستمرة في أسعار السلة الغذائية الإستراتيجية خلال سنوات العقد الفائت، وارتفاعها بشكل حاد في مايو/أيار في ظل استمرار جائحة كورونا وتداعياتها السلبية على امكانية الوصول للأسواق الدولية للغذاء في التوقيت المناسب، تعكس أهمية العودة إلى مفهوم الاكتفاء الذاتي الغذائي بديلا لسياسات الأمن الغذائي التي ثبت فشل الرهان عليها في تلبية احتياجات الدول العربية المستوردة للغذاء في وقت الأزمات بسبب هشاشة البنية التحتية لإنتاج الغذاء في المنطقة.
وكذلك بسبب تخلف السياسات الزراعية العربية التي تدعم إنتاج الكنتالوب والفراولة ولب التسالي على حساب القمح والذرة والقطن.
زيادة الاستثمار الزراعي الأفقي والرأسي وتوفير التقنيات الحديثة ودعم البحوث الزراعية لتعزيز إنتاج الغذاء في كل الدول العربية، وكذلك دعم صغار المزارعين والمنتجين بالتمويل النقدي والعيني للاقتراب من الاكتفاء الذاتي من الغذاء أصبح ضرورة وليس رفاهية، ذلك أن الدول المنتجة ليست جمعيات خيرية، والدول المصدرة ليست دعاة تكافل وإنسانية وإخاء، وسياستها التجارية واضحة وهي أن ما يعوزه المواطن يحرم على الأجنبي.