واصل سعر صرف الجنيه المصري تراجعه أمام العملات الأجنبية، متخطياً لأول مرة عتبة 32 جنيها للدولار الواحد في البنوك الرسمية، أمس الأربعاء، قبل أن يتراجع الدولار إلى أقل من 30 جنيها، ثم عادت العملة الأميركية للصعود اليوم الخميس في التعاملات المبكرة ليتجاوز سعره 30 جنيها، وسط مضاربات محمومة بين البنوك والسوق السوداء، وفي ظل توقعات بمواصلة العملة المحلية طريق الانخفاض.
وكشفت مصادر مصرفية لـ"العربي الجديد" أن تدخّل البنك المركزي عبر طرح دولارات في الأسواق تقدر بنحو 850 مليون دولار وراء كبح تهاوي الجنيه المتسارع أمس أمام العملة الأميركية.
وفقد الجنيه نحو 25% من قيمته خلال أسبوع، من بدء رحلة الهبوط الجديدة في 4 يناير/كانون الثاني الجاري، وتراقص على لوحات بيع العملة لدى البنوك طوال أمس، بين الصعود الغالب، فوصل الدولار إلى 32.3 جنيها، ثم الهبوط مع اقتراب نهاية يوم العمل بالبنوك إلى أقل من 30 جنيهاً.
تدخّل البنك المركزي عبر طرح دولارات في الأسواق تقدر بنحو 850 مليون وراء كبح تهاوي الجنيه المتسارع أمس أمام العملة الأميركية
وتحدد بعض البنوك سعرا يصل إلى 33 جنيها مقابل عمولة تدبيره للعملاء منذ بداية العام الحالي، بينما يتوقع خبراء أن يسكن الدولار عند سعر تعادل يصل إلى 37 جنيهاً، خلال الأيام المقبلة.
تعهدات صندوق النقد
وفاجأت البنوك الجمهور بتغيير لحظي في سعر الجنيه، على مدار يوم أمس، بعد ساعات من بدء تنفيذ تعهد الحكومة لصندوق النقد الدولي، بتخفيض قيمة الجنيه مقابل الدولار، وعدم التدخل في تسعيره ومنح العملة مرونة كافية.
وفقد الجنيه أكثر من 90% من قيمته منذ شهر مارس الماضي، ما أدى إلى تصاعد معدلات التضخم في أسعار المستهلكين، في المدن والريف إلى 21.9%، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتضخم الأساسي في البنك المركزي إلى 24.4%، بما يقارب نسبة الفائدة غير المسبوقة على شهادات الادخار، التي طرحها بنكا الأهلي ومصر التي بلغت 25%، وزيادة 2% عن المطروحة في بنك سي آي بي الخاص، و7% عما تدفعه البنوك على الودائع.
وبحسب مصادر فقد التزمت الحكومة أمام الصندوق بتطبيق سعر صرف مرن بشكل دائم، لضمان السوق المصرفية القدرة على امتصاص الصدمات الخارجية والمساعدة في إعادة احتياطي نقدي الذي استنزف خلال العام الماضي، وتقليص العجز في ميزان المدفوعات ورفع الدعم عن أغلب منتجات الوقود، ورفع القيود على الاستيراد، وخفض الإنفاق على المشروعات العامة.
كما تعهدت الحكومة بالتوقف عن دعم المبادرات التمويلية منخفضة العائد، الموجهة للصناعة والزراعة والسياحة والقطاع العقاري، ونقل تبعية المبادرات منخفضة العائد للوزارات المعنية.
وجاءت تعهدات الحكومة، مصحوبة بتفويض صندوق النقد في الإعلان عنها مساء أمس الأول، رغم تضمّنها شروطا قاسية شاملة، تتطلب استمرار سياسة التشدد النقدي، مع استهداف التضخم تدريجيا، والحد من الاستثمار الحكومي وبيع الشركات العامة والتابعة للجيش، لتقليص تدخّلهما في الاقتصاد المصري وعدم المساس بالودائع الخليجية التي تبلغ 28 مليار دولار، المرصودة في الاحتياطي النقدي حتى نهاية فترة برنامج القرض مع الصندوق في سبتمبر/أيلول 2026، مع عدم استخدمها في شراء أسهم أو ديون.
أظهر تنفيذ التعهدات الحكومية هشاشة الوضع المالي للدولة، مع شح في الدولار وفجوة تمويلية قدرها 17 مليار دولار، طوال السنوات الأربع المقبلة
وأظهر تنفيذ التعهدات الحكومية هشاشة الوضع المالي للدولة، مع شح في الدولار وفجوة تمويلية قدرها 17 مليار دولار، طوال السنوات الأربع المقبلة، رغم ضمان الصندوق منح الحكومة 3 مليارات دولار، تسدد نحو 20% من الفجوة التمويلية التي يتوقع سدادها من بيع الأصول العامة، ومؤسسات دولية، وشركاء خليجيين.
طريق مسدود
أظهرت تعاملات البنوك في بيع وشراء الدولار، وجود توجه قوى من البنك المركزي والحكومة، نحو خفض قيمة الجنيه، ليتعادل مع قوته في السوق الموازية التي استقرت، خلال اليومين الماضيين، عند 32 جنيها للدولار.
واعتبر رجال أعمال تراجع الجنيه يوميا، بمثابة السير في طريق مسدود الذي يؤدي إلى نفس النتائج التي سارت الحكومة نحوه خلال السنوات الماضية، دون أن تلتفت إلى خطورته على دفع المصانع والشركات للتوقف، مع عدم قدرتها على الوفاء بمستلزمات الإنتاج، وارتفاع التكلفة، وصعوبة الحصول على قروض ميسرة، تحمي المستثمرين من الإفلاس.
وبرأي رجال أعمال عديدين، فإن الحكومة لم تعد لديها حلول، وستلجأ حتما إلى بيع أصول مهمة مملوكة للدولة تدر عوائد دولارية وكبيرة، دون أن تدرك أن السياسات النقدية التي تتبعها، ستهدر فرصتها في زيادة الموارد المالية، وأن تراجع الجنيه، بهذه الصورة، سيزيد من أعباء الموازنة العامة للدولة، والضغط اليومي على أسعار المستهلكين وقدرات المواطنين الشرائية.
صعوبات بالغة
"المضطرّ يركب الصعب"، هكذا عبّر خبير البنوك والاستثمار، رشاد عبده، في حواره مع "العربي الجديد"، عن الأوضاع الاقتصادية في مصر.
وقال: لدينا مشكلة مالية واقتصادية، وجاء الاتفاق مع صندوق النقد، ليوفر للدولة الفجوة التمويلية، ويضغط على الدول الداعمة لمصر، كي توفر لها الاستثمار اللازم للإنقاذ المالي. وأيّد عبده توجه البنك المركزي نحو تحرير سعر الصرف، كي يصبح الدولار مثل أي سلعة، تخضع لقانون العرض والطلب.
خبير اقتصادي: "لن نقف في وجه القطار، فالطلب على الدولار مرتفع، وتحتاج الدولة والموردون إليه، لشراء مستلزمات الإنتاج
وأضاف الخبير الاقتصادي: "لن نقف في وجه القطار، فالطلب على الدولار مرتفع، وتحتاج الدولة والموردون إليه، لشراء مستلزمات الإنتاج، ولذلك ستجد عليه إقبالا، لنضمن توافر السلع، وإن جاءت بسعر مرتفع، فهذا أفضل من عدم وجودها على الإطلاق".
ويتوقع أن تعمل الحكومة على محاربة التضخم عبر رفع الفائدة على الجنيه، وتشجيع شهادات الادخار ذات العائد المرتفع، لدفع حائزي الدولار إلى التخلص منه لصالح الجنيه، أو الحد من اللجوء إليه واتخاذه وعاء للثروة.
ويرى عضو مجلس الشيوخ، عن حزب التجمع اليساري، أحمد شعبان، أن تراجع الجنيه في الوقت الحالي، أمر أصبح لا مفر منه، مشيرا إلى ضرورة أن تتمكن الحكومة من توفير الدولار بأي ثمن.
يقول شعبان: يجب أن نوفر الدولار وأن يكون موجودا لشراء مستلزمات الإنتاج وحاجات الناس الأساسية. يضيف النائب البرلماني: لا يقلقني تحرك سعر الدولار، لأنه غير موجود في البنوك، ولذلك علينا أن نتقبل الأمر الواقع الذي فرضه الصندوق عبر اتفاق لا نريده، ولكن لا يمكن رفضه، حتى "تعدي البلد على خير".
يتابع البرلماني المصري في حديث لـ "العربي الجديد": نعترف بأننا في أزمة تتطلب قرارات صعبة، ونحاول تجاوز التوجهات الحزبية بدعم الدولة، ولا ننظر إلى ما هو مفروض أن نفعله، بقدر ما نرغب في تخفيف الأعباء عن المواطنين".
يتوقع عضو مجلس الشيوخ بعد جلسات مطولة لمجلس الشيوخ ناقشت الأوضاع الاقتصادية لمدة يومين، أن تظهر انفراجة في الأفق نهاية إبريل/نيسان المقبل. مع توقع الحكومة زيادة إيراداتها من الدولار، من عوائد قناة السويس والسياحة وتحويلات المصريين في الخارج، وعودة الإنتاج في المصانع، وإغراء المصريين بالتخلص مما لديهم من دولارات، مقابل زيادة الفائدة على الودائع بالجنيه وشهادات الادخار التي بلغت 25%.
عودة الذهب للارتفاع
أدى الانخفاض إلى عودة سوق الذهب للارتفاع الجنوني، حيث قفز خلال ساعات أمس إلى مستويات 1870 جنيها لغرام الذهب عيار 18، من 1750 أول من أمس. يعكس التحرك في سعر الذهب، قوة الدولار في السوق الموازية الذي يتصاعد كلما تراجع الجنيه رسميا، ما دفع تجار الذهب إلى تعليق الإعلان عن أسعار البيع والذهب لدى التجار، لحين توقف العمل بالبنوك ومعرفة سعر الدولار عند الإغلاق وبدء التعامل من جديد.
وانشغلت المحلات التجارية والأسواق بتعديلات جديدة في الأسعار، في مشهد يتكرر كل عدة أيام، مع زيادة في الأسعار، تشمل جميع السلع والمأكولات والخضروات.
يعزو صندوق النقد الدولي الأزمة المالية المصرية إلى تأخر الحكومة في حل مشكلة سعر الصرف، والتي تكشفت أثناء اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، مع خروج رأسمال المال إلى الخارج، بقيمة 25 مليار دولار دفعة واحدة، العام الماضي، وخسائر كبيرة في الاحتياطي النقدي، في حين أدى ارتفاع الأسعار إلى صعود التضخم.
ويتوقع الصندوق في تقرير أصدره أمس أن يساعد التحول إلى سعر صرف مرن في اتخاذ تدابير للمساعدة في حماية المواطنين من أزمة تكلفة المعيشة المتصاعدة، مستدركا أن حالة عدم اليقين العالمي ستلقي بظلالها الطويلة على انتعاش مصر، ولا تزال هناك حاجة طويلة الأمد لدفع الإصلاحات الهيكلية العميقة لتحفيز النمو المستدام والشامل والغني بالوظائف.
اقتصاد هش
تحذّر مؤسسة فيتش المالية في تقرير عن مصر، صدر نهاية الأسبوع الماضي من تعرّض اقتصاد مصر "الهش" جراء سياسية التشدد النقدي في زيادة خدمة الديون وتفاقم الضغط على الموازنة العامة.
وتتوقع "فيتش" زيادة ارتفاع تكلفة المعيشة مع استمرار تطبيق إصلاح الدعم الحكومي (سترفع أسعار الطاقة وسلع بطاقات التموين) وأنظمة سعر الصرف وخفض الإنفاق الرأسمالي، مع ذلك "لن يكون كافيا لتخفيف الإحباط الشعبي من ارتفاع الأسعار".
ولا تستبعد فيتش أن تندلع في مصر ودول عديدة في المنطقة، احتجاجات مع تفاقم أسباب ارتفاع تكاليف المعيشة وضعف النمو الاقتصادي وانحسار التحويلات المالية.
أدى الانخفاض إلى عودة سوق الذهب للارتفاع الجنوني، حيث قفز خلال ساعات أمس إلى مستويات 1870 جنيها لغرام الذهب عيار 18
ويرجح محللون تصاعد ارتفاع الأسعار في الأشهر المقبلة، بدافع من زيادة أسعار السلع للمستهلكين، خلال الأشهر المقبلة، خاصة مع توجه الحكومة إلى رفع سعر البنزين والسولار والكيروسين خلال أيام، وزيادة الكهرباء في يوليو/تموز المقبل.
وارتفع المعدل الرئيسي لأسعار المستهلكين خلال عام 2022، مدفوعا بارتفاع نسبته 37.2% على أساس سنوي في ديسمبر الماضي، بسبب تكاليف المواد الغذائية والمشروبات.
كما يبشر المحللون في بنك الاستثمار آي كابيتال وكابيتال إيكونوميكس البريطانية، أن يبلغ التضخم ذروته عند حدود 22- 24% في الربع الأول من العام الجاري، بسبب تراجع قيمة الجنيه.
وقال مصدر مطلع في لجنة الطاقة بمجلس النواب المصري، في وقت سابق، إن الحكومة ستقر زيادة جديدة في أسعار البنزين والسولار قبل حلول 15 يناير/كانون الثاني الجاري، بناءً على توصية لجنة التسعير التلقائي للمنتجات البترولية بشأن الربع الأول من العام (يناير/كانون الثاني - مارس/آذار)، والمشكّلة من ممثلي وزارتي المالية والبترول والهيئة العامة للبترول.
ورجح المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، في حديث خاص مع "العربي الجديد"، رفع سعر بيع منتجات البنزين في السوق المحلية من 8 جنيهات إلى 8.75 جنيهات للتر بنزين 80، ومن 9.25 جنيهات إلى 10 جنيهات للتر بنزين 92، ومن 7.25 جنيهات إلى 8 جنيهات للتر السولار (الديزل).