من الاحتمالات التي يجب عدم إغفالها عند بحث مسألة أسباب تهاوي سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار هو أن هذا التراجع قد يكون " مهندساً ومداراً" من قبل الإدارة التركية، أو على الأقل على هوى صانع القرار، رغم التكلفة السياسية والاقتصادية الباهظة للتراجع من تضخم الأسعار وتآكل المدخرات المحلية واهتزاز ثقة المستثمرين.
ولذا غضت الحكومة التركية الطرف، ولو مؤقتاً، عن التراجع المستمر لليرة خلال الفترة الأخيرة، وهو تحول جذري إن تحقق وأستمر.
فقبل سنوات كانت تلك الحكومة تملأ الدنيا صراخا باستهداف عملتها ومحاولة إضعافها والمضاربة عليها من قبل قوى إقليمية ومصارف غربية تناصب الدولة العداء كما كانت تردد في تصريحاتها، وصاحب ذلك تخبطاً في إدارة الأزمة وتداخلاً بين وزارة المالية والبنك المركزي، بل وتعارضاً في القرارات في بعض الأوقات.
الحكومة التركية باتت تتعامل ببرودة أعصاب شديدة مع التراجع الأخير في قيمة الليرة، وتوقفت عن استخدام كلمات منها أن الليرة خط أحمر، أو مهاجمة المصارف الغربية
لكن في الفترة الماضية تعاملت حكومة تركيا بواقعية مع قضية تهاوي العملة، بل ودفعت بسياسات محددة في اتجاه تراجع سعر الليرة وإضعافها عبر الحديث المتواصل عن ضرورة خفض سعر الفائدة على الودائع رغم الضغوط التي تتعرض لها العملة المحلية، وعزل أردوغان ثلاثة من محافظي البنك المركزي خلال فترة زمنية لا تتجاوز العامين، ومحاولة الرئاسة التركية التدخل في إدارة السياسة النقدية خاصة المتعلقة باتجاهات أسعار الصرف والفائدة ومستوى وتركيبة الاحتياطي الأجنبي، وعزل وزير المالية، براءت ألبيرق، وبعدها عزل رئيس الصندوق السيادي.
الملاحظ أن الحكومة التركية باتت تتعامل ببرودة أعصاب شديدة مع قضية التراجع المستمر في قيمة الليرة، وتوقفت عن استخدام مصطلحات منها أن الليرة خط أحمر، أو مهاجمة المصارف الغربية وبنوك الاستثمار العالمية التي تترصد بعملتها كما كانت تقول.
وباتت تركز على كيفية الاستفادة من هذا التراجع وتحويله إلى أمر في صالح الاقتصاد، وذلك بعد أن اقتنعت أن الدول قد تُضعف عملاتها وقت الأزمات الاقتصادية بدلا من أن تقويها، وأن هذا التراجع في صالح الاقتصادات الوطنية بشرط الاستفادة منه وإدارته باحترافية.
لأن القواعد الاقتصادية تقول إن تراجع العملة المحلية يلعب دورا مهما في زيادة إيرادات الدولة من النقد الأجنبي خاصة من أنشطة رئيسية مثل الصادرات والسياحة والاستثمارات الأجنبية وتحويلات المغتربين، بشرط أن تستغل الحكومة هذا التراجع وتديره باحترافية.
ولنا في التجربة الصينية عبرة إذ دخلت في سنوات سابقة في حرب عملات مع الولايات المتحدة مع إصرارها على إضعاف عملتها، اليوان، لزيادة صادراتها الخارجية وجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية.
صادرات تركيا في النصف الأول من العام الجاري تتجاوز 105 مليارات دولار، وتخطط الوصول بالرقم إلى 200 مليار دولار بنهاية العام، وهذا الرقم هو الأعلى في تاريخ البلاد
تركيا استغلت أزمة التراجع الحاد في قيمة العملة المحلية وإغلاق الدول حدودها وأسواقها واقتصاداتها بسبب تفشي كورونا في تحويل منتجاتها الى سلع جذابة ورخيصة تغزو الأسواق العالمية وتدر عليها مزيد من الموارد الدولارية.
كما نجحت في زيادة إنتاج قاعدتها الصناعية وتنويع الصادرات لتلبية الطلب المتزايد على السلع في الأسواق العالمية، واستغلال لحظات توقف حركة الطيران والشاحنات في العالم بسبب القيود التي فرضتها الدول بسبب الجائحة.
وكانت النتيجة حدوث قفزة في قيمة صادرات تركيا في النصف الأول من العام الجاري حيث تجاوزت 105 مليارات دولار، وتخطط للوصول بهذا الرقم إلى 200 مليار دولار بنهاية العام الجاري. وهذا الرقم المحقق هو أعلى أرقام الصادرات في تاريخ البلاد سواء على أساس شهري أو ربع سنوي أو نصف سنوي.
هناك مدرستان للتعامل مع واقع وأسعار العملات المحلية، مدرسة تقليدية ما زالت تتعامل على أن عملة الدولة خط أحمر يجب الدفاع عنه وتقويتها مقابل الدولار مهما كلف ذلك الاقتصاد من موارد، ومهما استنزف احتياطي النقد الأجنبي، وأخرى تعمل على إضعاف عملتها الوطنية بهدف زيادة ايراداتها من النقد الأجنبي ودعم احتياطياتها الدولارية، والصين وغيرها من اقتصادات دول العالم المتقدم تنتمي إلى المدرسة الثانية، والبنك المركزي الأوروبي لا يحبذ سياسة اليورو القوي كما قال ماريو دراغي الرئيس السابق للبنك.
وحبذت الإدارة الأميركية في بعض الأوقات سياسة "الدولار الضعيف"، وهو ما عبر عنها وزير الخزانة الأميركي في عهد دونالد ترامب، ستيفن منوشين، حينما قال في 24 يناير 2018 إن الدولار الضعيف يُدعم اقتصاد بلاده. بل إن باراك أوباما قال أمام قمة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى في يونيو 2015 إن الدولار القوي يمثل مشكلة.
وفي ذروة تصاعد وتيرة الحرب التجارية بين واشنطن وبكين في أغسطس 2018 تعمدت الصين تخفيض قيمة عملتها اليوان التي تراجعت إلى أدنى مستوياتها في أكثر من عشر سنوات، مما دفع الولايات المتحدة إلى تصنيف الصين بأنها "تتلاعب بالعملة".