قرر البنك المركزي المصري السماح لسعر الصرف بأن يتحدد وفق آليات السوق، ورفع أسعار الفائدة الأساسية بمقدار 600 نقطة أساس، فقفز سعر الدولار في النظام المصرفي الرسمي لأكثر من 50 جنيهاً، قبل أن يستقر بعدها بيومين عند مستوى أقل، وتتبدل صورة الاقتصاد المصري في أعين المتابعين.
استغل البنك جو التفاؤل الذي صاحب الإعلان عن صفقة تطوير منطقة "رأس الحكمة" المصرية، التي قيل إن صندوق الاستثمار التابع لحكومة أبو ظبي سيستثمر فيها مبلغ 35 مليار دولار، وينتظر أن تجذب استثمارات تصل قيمتها إلى 150 مليار دولار، على مدار فترة تنفيذ المشروع، كما الإعلان عن توقيع سبع اتفاقيات للطاقة المتجددة، بقيمة تقدر بنحو 40 مليار دولار.
اتخذ البنك المركزي قراره مدعوماً بعشرة مليارات دولار التي وصلت إليه بالفعل من أبوظبي، وبدا البنك مستعداً لضخ الدولارات في الأسواق، لو شهدت مضاربات أدت إلى ارتفاع سعر الدولار بصورة غير مقبولة.
قابل البنك المركزي طلبات العملاء لتوفير الدولار، من أجل الإفراج عن بضائع، أغلبها من السلع الغذائية والأدوية والمواد الخام، فتحركت البضائع إلى الأسواق في توقيت حرج، عشية الشهر الكريم.
وفور اتخاذ قرار التعويم "الجزئي"، أعلن رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء بشأن المراجعة الأولى والثانية لبرنامج قرض صندوق النقد، مع زيادة حجم الحزمة التمويلية إلى 8 مليارات دولار، بالإضافة إلى أكثر من مليار دولار أخرى، من صندوق الاستدامة البيئية التابع لصندوق النقد.
بعد ذلك بساعات، أصدر البنك المركزي توجيهات للبنوك المحلية بتخفيف القيود على المعاملات بالنقد الأجنبي، وترك لها تحديد قدر تخفيف القيود. وكانت الرسالة واضحة بضرورة العودة إلى الوضع الطبيعي، بعد أشهر من القيود الخانقة التي عانى منها المسافرون والمشتركون في الخدمات التقنية وخدمات البث، كما العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة. وسمح البنك المركزي أيضاً للبنوك بزيادة حدود استخدام بطاقات الائتمان بالعملة الأجنبية.
ارتفعت أدوات الدين المصرية المقومة بالدولار، ولا سيما السندات طويلة الأجل، عقب إعلان قرارات المركزي المصري، ما قلص فارق العائد بين السندات المصرية بالدولار وسندات الخزانة الأميركية، وهو مؤشر شديد الأهمية للمستثمرين الأجانب.
ساهمت كل تلك التطورات في عودة بعض الثقة إلى راغبي الاستثمار بالجنيه المصري، سواء من خلال الاستثمارات الأجنبية المباشرة، في شركات تعمل وتنتج على أرض مصر، أو تلك التي تفضل طريقاً أسهل، من خلال شراء حصة الحكومة المصرية في بعض أنجح الشركات العاملة في مصر، أو حتى تلك المتوجهة إلى سوق الأوراق المالية، فيما يعرف باسم الأموال الساخنة.
وقبل أيام، قالت نشرة "إنتربرايز" إن فريقها في دبي لمس الأٍسبوع الماضي، عقب الإعلان عن التعويم والقرارات الأخرى، شهية كبيرة من قبل المستثمرين في الإمارات تجاه مصر أكثر من أي وقت مضى خلال السنوات الأربع الماضية.
وأضافت النشرة أن العديد من البنوك تتلقى مكالمات من مستثمرين في لندن ونيويورك وفرانكفورت لطرح الأسئلة التي تساعدهم في التخطيط لاستراتيجية الاستثمار في مصر. وأكدت مصادر حكومية دخول ما يقرب من 1.5 مليار دولار للاستثمار في الأوراق المالية الحكومية المصرية، بعد ارتفاع العائد عليها لأكثر من 32%.
وقالت وكالة بلومبيرغ قبل يومين إن الحكومة المصرية تجري حالياً محادثات مع مسؤولين سعوديين بشأن حقوق تطوير منطقة "رأس جميلة" في شرم الشيخ، نقلاً عن مصادر وصفتها بالمطلعة، وهو ما يتوقع أن يجلب "عدة مليارات" أخرى من الدولارات. والخميس الماضي، أعلنت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني تعديل نظرتها المستقبلية لتصنيف مصر إلى "إيجابية".
ومطلع الأسبوع الحالي، أعلن وزير المالية المصري، محمد معيط، عن توقعه توفير البنك الدولي نحو 3 مليارات دولار لتمويل مصر. وجاء تصريح معيط بعد تصريح ذي صلة أدلى به الوزير المصري، وأكد فيه أن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي قد يساعد البلاد على تأمين 20 مليار دولار إجمالا في صورة دعم من الشركاء الدوليين.
ووفقاً لتصريحات سابقة، يتوزع مبلغ الـ20 مليار دولار بين 11 مليار دولار من الشركاء الدوليين، بما في ذلك البنك الدولي والاتحاد الأوروبي واليابان والمملكة المتحدة، جنبا إلى جنب مع حزمة صندوق النقد الدولي البالغة أكثر من تسع مليارات دولار.
وبحسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، فإن الحكومة تخطط لإبرام صفقات كبيرة لضمان السيولة، وستعمل مع التجار لضبط الأسعار وتعطي الأولوية لإتاحة العملة الأجنبية لمستوردي السلع الأساسية، بعد السماح لقيمة العملة بالانخفاض الحاد. وقال مدبولي إن حكومته مطمئنة ولديها ثقة لتدبير العملة الأجنبية المطلوبة لدفع عجلة الاقتصاد خلال الفترة المقبلة.
لا أشك في أن ثقة رئيس الوزراء المصري في الجنيه في محلها، على أقل تقدير للأشهر الستة القادمة، ولا أشك أيضاً في حتمية انتقالها للمستثمرين الأجانب، مع رؤيتهم تدفق المليارات من العملة الأجنبية إلى البلاد. لكن هل تسمح هذه الانفراجة بمزيد من الشفافية، خاصة في ما يتعلق بالصفقة الرئيسية مع الإمارات، والتي نتج عنها كل تلك التطورات الإيجابية؟
هل يمكن أن يحدثنا أحد – بوضوح – عن تفاصيل صفقة "رأس الحكمة"، لنعرف إن كنا قد بعنا الأرض، أم منحنا حق الانتفاع بها؟ وإن كنا قد بعناها، فبكم بعنا المتر، وهل يحق للإماراتيين البيع لأي مشتر لاحقاً؟ وإن كان الاتفاق على حق انتفاع، فلكم سنة؟ وهل يمكن أن نعرف تفاصيل الاتفاق على المطار الذي قيل إنه سيجاور منطقة رأس الحكمة؟ وهل يمكن أن نعرف بكم سيتم تعويض ساكني المنطقة المطلوب ترحيلهم منها؟
كنت أتوقع أن أعرف إجابات هذه الأسئلة ممن يمثلوننا في المجالس النيابية، لكن الواضح حتى الآن أنهم ليسوا بأعلم منا، رغم ضرورة موافقتهم على اتفاقات كهذه قبل التوقيع عليها. فهل يسمح الموقف الحالي، بعد عبورنا الهزيمة، بالإجابة عن تلك الأسئلة؟