أضحى الاقتصاد الأميركي في دائرة الخطر، بعد أن أظهرت العديد من المؤشرات دخول البلاد في مرحلة من التباطؤ، نتيجة تراجع معدلات النمو العالمية، جراء حرب الرسوم الجمركية المتبادلة مع الصين والنزاعات التجارية التي تخوضها إدارة الرئيس دونالد ترامب على العديد من الجبهات، الأمر الذي ضرب قطاعات حيوية في الاقتصاد الأميركي، الذي بدأ بالفعل في التصدع.
وفي تأكيد جديد على استمرار تباطؤ الاقتصاد، خلال الربع الثالث من العام الحالي، أظهرت تقارير رسمية صادرة قبل أيام، انخفاض مؤشر هام للإنفاق الرأسمالي الأميركي، وزيادة هزيلة لإنفاق الأفراد الاستهلاكي، الأمر الذي قد يتسبب في المزيد من تراجع ثقة المستهلكين، وإحجام الشركات عن الإنفاق على الاستثمار وخلق الوظائف.
ووفق تقرير صادر عن مكتب الإحصاء الأميركي، يوم الجمعة الماضي، أبرزه بنك الاحتياط الفيدرالي في سانت لويس على موقعه على الإنترنت، فإن طلبات شراء السلع الرأسمالية، غير الدفاعية، باستثناء الطائرات، انخفضت بنسبة 0.2 في المائة، خلال أغسطس/آب الماضي، في أول انخفاض للمؤشر الهام في أربعة أشهر.
ومثلت البيانات الأخيرة استمراراً لما حدث خلال الربع الثاني من العام الحالي، حيث تسببت التوترات التجارية، ضمن عوامل أخرى، في دفع الشركات الأميركية إلى اتباع نهج أكثر حذراً، وهو ما تسبب في انخفاض الاستثمار الثابت غير السكني، والذي يعكس الإنفاق على البرمجيات، والبحث والتطوير، والمعدات والهياكل، بنسبة 1 في المائة، بينما كان المعدل قد سجل ارتفاعا بنسبة 4.4 في المائة في الربع الأول من العام.
كما أظهرت بيانات صادرة عن وزارة التجارة الأميركية، قبل أربعة أيام، زيادة هزيلة لمؤشر إنفاق الأفراد الاستهلاكي في أغسطس/آب، بنسبة لم تتجاوز 0.1 بالمائة، في أضعف قراءة للمؤشر في ستة أشهر، بعد أن سجل ارتفاعاً في يوليو/تموز الماضي بنسبة 0.5 في المائة.
وينظر الكثيرون إلى هذه النسبة على أنها بمثابة جرس إنذار، إذ يُعد إنفاق الأفراد الاستهلاكي، المساهم الأكبر في عدم دخول الاقتصاد الأميركي حتى الآن في ركود، ويراه الاقتصادي المصري الأميركي الشهير محمد العريان العنصر القادر على حماية الاقتصاد الأميركي من التباطؤ الاقتصادي الضارب في أقوى الاقتصادات في أوروبا وآسيا.
وبعد أن تسبب نمو الإنفاق الاستهلاكي، خلال الربع الثاني من العام الحالي، والذي كان الأفضل في الثمانية عشر ربعاً الأخيرة، في إنقاذ الاقتصاد الأميركي وتسجيل معدل نمو مقبول نسبياً، يقدر بنسبة 2 في المائة، تسببت القراءة الأخيرة للمؤشر في تعديل مركز الأبحاث الهام كابيتال ايكونوميكس لتوقعاته للنمو الاقتصادي الأميركي خلال الربع الثالث، المنتهي أمس الاثنين، لتصبح 1.5 بالمائة سنوياَ، بعد أن كانت 2 في المائة قبل صدور التقرير.
ورغم ارتفاع مؤشر معنويات المستهلكين، وهو مقياس لمعنويات الأسر تصدره جامعة ميشيغان، من 89.8 نقطة في أغسطس/آب إلى 93.2 نقطة في سبتمبر/أيلول، إلا أنه سجل انخفاضاً بنسبة 6.9 بالمائة مقارنةً بشهر سبتمبر من العام الماضي، وهو أكبر انخفاض سنوي منذ إبريل/نيسان 2016.
ويعزز المؤشر عدم وضوح الرؤية للمستهلكين، خاصةً بعد أن شملت الرسوم الجمركية الأميركية، مجموعة من السلع الاستهلاكية المستوردة من الصين مطلع الشهر الماضي.
واضطر البنك الفيدرالي إلى ضخ عشرات المليارات من الدولارات في كل يوم من أيام عمل الأسبوعين الماضيين، في صورة اتفاقيات إعادة شراء (ريبو)، بعضها لمدة ليلة واحدة، والبعض الآخر يمتد حتى العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، من أجل كبح جماح ارتفاع معدل الفائدة على اقتراض البنوك الأميركية، الأمر الذي ساعد على عودة المعدل إلى مستوياته الطبيعية مع نهاية الأسبوع الماضي.
واستبعد مارك هايفيلي، مسؤول الاستثمار العالمي في بنك الاستثمار العملاق "يو بي اس"، في مقالٍ له على صفحته على موقع التواصل "لينكد إن"، توصّل الكونغرس الأميركي "المنقسم" حالياً إلى اتفاق حول حزم تحفيزية كبيرة، قبل الانتهاء من انتخابات العام القادم 2020، وهو ما رآه هايفيلي تأكيداً على استمرار البنوك المركزية، وعلى رأسها بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي، في الاضطلاع بالدور الرئيسي في محاربة التباطؤ الاقتصادي، مضيفاً أنه يتوقع "استمرار الفيدرالي في اتباع سياسات التيسير في الفترة القادمة".
ومع اعتراف العديد من المسؤولين عن السياسة النقدية في الاقتصادات الكبرى باقتراب الاقتصاد العالمي من الركود، وتدخّل بعضهم، في الأسواق بصورة مباشرة خلال الأسبوعين الأخيرين، للحد من نقص السيولة في الأسواق، اعتبر ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، أن ضخ الأموال في الأسواق يعد من السياسة المالية لا النقدية.
وقال دراجي، في تصريحات صحافية مؤخراً: "أعتقد أنه حان الوقت لتولي السياسات المالية القيادة"، في حثٍ للحكومات على توفير حزم مالية تحفيزية لإنقاذ الاقتصاد من الوقوع في ركود. لكن هايفيلي رأى أن "أي حزم مالية في الوقت الحالي، لن تكون كافية لإنقاذ الأسواق على المدى القصير، في أي من الاقتصادات الكبرى".
ووفق تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، يوم السبت الماضي، فإن تراجع معدلات النمو العالمية ضرب قطاعات حيوية في الاقتصاد الأميركي، بحيث لم يعد الاقتصاد، الأكبر عالمياً، قادراً على الوقوف بمعزل عن التحديات الخارجية والتداعيات السلبية لحرب الرسوم الجمركية المتبادلة مع الصين، وهو ما انعكس في تباطؤ قطاعات حيوية داخل الولايات المتحدة، خلال أغسطس الماضي، مقارنة بأشهر سابقة.
وأشارت الصحيفة إلى أن تباطؤ نمو الإنفاق الاستهلاكي دفع خبراء اقتصاد إلى خفض تقديراتهم بشأن نمو الاقتصاد الأميركي، خلال الربع الثالث من العام الجاري، إلى 1.7 في المائة، مقابل توقعات سابقة بنموه 2.2 بالمائة، نظرا إلى أن الإنفاق الاستهلاكي يشكل نحو ثلثي إجمالي الناتج المحلي في الولايات المتحدة.
ولفتت إلى أن الإنفاق الاستهلاكي لطالما مثل نقطة مضيئة ومحركا لنمو الاقتصاد الأميركي، إلا أن الضعف الذي حل بالقطاع، قد يعكس استسلام المستهلك الأميركي للعوامل الخارجية، سواء تداعيات النزاع التجاري مع الصين أو تراجع نمو اقتصادات كبرى حول العالم التي أضرت بمناخ الأعمال العالمي وقطاعات التصنيع على مدار الأشهر الأخيرة.
ونقلت الصحيفة عن ليديا باوسوور، خبيرة مختصة في الشأن الاقتصادي الأميركي في جامعة أكسفورد، قولها إن "الاقتصاد الأميركي ليس محصنا تجاه كل هذا الكم من التحديات والانعكاسات العالمية، وبالتالي فإننا فد نشهد تباطؤا تدريجيا للنمو في ضوء المعطيات العالمية".
ورأت الصحيفة أن المشهد الاقتصادي يظل ضبابيا إلى حد كبير في أعين المستهلك الأميركي، لا سيما بعد أن سارعت إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى بدء تطبيق رسوم جمركية إضافية على واردات وسلع صينية استهلاكية مع بداية شهر سبتمبر/أيلول، وفرض بكين رسوما انتقامية على سلع أميركية.