البدايات تدل على النهايات والمقدمات على النتائج، ومشروع ضخم تمت إقامته بلا دراسات جدوى رغم أن تكلفته فاقت بضعة مليارات من الدولارات فمن الطبيعي أن يواجه أزمة مالية تصل إلى حد التعثر في سداد مديونيات مستحقة عليه، وهو ما حدث بالفعل مع قناة السويس أحد أبرز موارد النقد الأجنبي في البلاد حيث تأتي في مرتبة رابعة بعد التحويلات والصادرات والسياحة.
البداية كانت في صيف عام 2015 حينما تم الإعلان عن إطلاق "قناة سويس جديدة"، وفي زفة إعلامية غير مسبوقة نقلت رقصات السيدات أمام البنوك، تمت دعوة المصريين إلى الاكتتاب في شهادات القناة الجديدة البالغة قيمتها 64 مليار جنيه، "ما يعادل 8 مليارات دولار بأسعار صرف ذلك الوقت"، وبسعر فائدة مغرٍ وقتها هو 12% سنويا، تمت زيادته في وقت لاحق إلى 15.5%، عقب قفزة معدل التضخم التي أعقبت تعويم الجنيه المصري في شهر نوفمبر 2016.
ساعتها تم وعد المصريين بالمنّ والسلوى والأموال الوفيرة، بل وخرج كبار المسؤولين ليؤكدوا أن إيرادات القناة ستبلغ 100 مليار دولار في السنة، عقب إطلاق القناة الجديدة، التي اكتشفوا بعدها أنها عبارة عن تفريعة جديدة تضاف إلى التفريعات السابقة التي تم افتتاحها في عهود رؤساء مصر السابقين، عبد الناصر والسادات ومبارك، وإن تميزت التفريعة الجديدة بطول المساحة والعمق.
إلا أن الجميع فوجئ بتراجع إيرادات القناة في عام افتتاح التفريعة 2016، لتبلغ 5 مليارات دولار مقابل 5.17 مليارات في العام 2015، و5.46 مليارات في العام 2014.
ولتعظيم الإيرادات بعد ذلك، منحت إدارة قناة السويس خصومات ضخمة تصل أحياناً إلى 75% لناقلات النفط العملاقة، المحملة أو الفارغة، وهو ما أدى إلى زيادة الإيرادات إلى 5.7 مليارات دولار في 2018، وساهم في الزيادة أيضاً ارتفاع أسعار النفط وعودة السفن العملاقة للمرور في القناة بدلاً من رأس الرجاء الصالح.
ورغم هذا التحسن الذي جرى في العام 2018 إلا أن رقم الإيرادات يقل كثيرا عن الرقم الذي وعد رئيس هيئة قناة السويس الفريق مهاب مميش بتحقيقه عقب افتتاح التفريعة، ولا نعرف هل تتحقق توقعات مميش بارتفاع الإيرادات من مرور السفن إلى 13.2 مليار دولار سنويا بحلول عام 2023؟
ورغم زخم الحديث الإعلامي عن زيادة إيرادات القناة ومرور سفن عملاقة خلال عام 2019، إلا أن الواقع يقول شيئا آخر، فقد كشف اللواء خالد العزازي، مستشار رئيس هيئة قناة السويس، قبل أيام، أمام لجنة النقل بمجلس النواب، عن أن الهيئة حققت حتى الآن زيادة في الإيرادات تقدر بنسبة 3.4% فقط عن العام الماضي، وهي نسبة طفيفة مقارنة بالتوسعات الكبيرة التي جرت في القناة عام 2015.
لم يتوقف الأمر عند هذه الزيادة الطفيفة، رغم إنفاق 8 مليارات دولار على مشروع "التفريعة" والكباري والانفاق المارة أسفل القناة، فقد دخلت قناة السويس مرحلة جديدة تمثلت في ضعف القدرة على سداد مديونيات مستحقة عليها للبنوك، ودخول الدولة، ممثلة في وزارة المالية، على الخط لسداد أقساط الديون المستحقة على الهيئة لصالح بنوك حكومية، بإجمالي 600 مليون دولار.
كما تأخرت هيئة قناة السويس عن سداد 450 مليون دولار تمثل ثلاثة أقساط تُستحق في ديسمبر 2017، ويونيو 2018، وديسمبر 2018. ووافقت البنوك الدائنة، في إطار بروتوكول موقّع مع وزارة المالية، على ترحيل مواعيد استحقاق الأقساط المستحقة على الهيئة لمدة عامين.
تفريعة قناة السويس أجبرت الحكومة على تعويم الجنيه المصري بعد أن تم سحب الدولار من السوق لسداد مستحقات شركات الحفر العالمية، والآن تتحمل الخزانة العامة للدولة تكلفة سداد مديونياتها الدولارية للبنوك.
السؤال الأهم: هل أزمة قناة السويس الحالية حقيقية وناتجة عن نقص في الإيرادات الدولارية أو توجيه إيرادات القناة لسداد التزامات أخرى، أم أنها أزمة حقيقية تفرض على صاحب القرار البحث عن حل لهذا المرفق العالمي الذي يعد واحداً من أبرز روافد الخزانة العامة للدولة؟