"العالم يتداعى حولنا يا روكي"، يقول بولي بينّينو (بيرت يونغ) لروكي بالبوا (سيلفستر ستالون).
هذا حاصلٌ بكثرةٍ، في عالمٍ يتهاوى. المصائب وفيرة. كأنّ نهايةً ما تُعلن نفسها تدريجياً، مُرسلةً إشارات، كثيرون غير مُنتبهين إليها، وآخرون يتجاهلونها. الغليان قاتلٌ، لكنّه يتناقض مع غليانٍ آخر، يُفترض به (الغليان الآخر) أنْ يكون تمهيداً لانقلابٍ تجديديّ مطلوب. الحاصل في دولٍ كثيرة يُنذر بنهايةٍ، تجهد في قولٍ واضحٍ ينبثق من إشاراتٍ، تُفيد بأنّ النهاية قريبةٌ. حروبٌ تستمرّ. مناخٌ يزداد سوءاً. اقتصاد ينهار. اجتماع يتعفّن. إعلامٌ يتواطأ. ثقافة تتمزّق. علاقات ترتبك. جهلٌ يتسلّط، مُثيراً خراباً فوق خرابٍ. حياةٌ تبثّ سموماً لأناسٍ، تجعلهم يعيشون أمواتاً في قعر الهاوية.
نماذج عن نهاية مؤجّلة
يومان اثنان (11 و12 أغسطس/آب 2022) كافيان لتقديم نماذج متفرّقة عن نهاياتٍ، تُكتب بضجيجٍ ودماء وقهرٍ وخيبات وآلامٍ:
اقتحام بسام الشيخ حسين فرعاً لمصرف "فدرال بنك" في منطقة الحمرا (بيروت)، مُهدِّداً بقتلٍ وحرقٍ، بهدف الحصول على وديعةٍ له تبلغ 209 آلاف دولار أميركي، يتمنّع المصرف، كبقية مصارف لبنان منذ "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، عن تسليمه إياها. الحجّة غير مُهمّة، عامةً. أهميتها لبنانية بحتة، إذْ يُفسَّر كلّ شيءٍ وفقاً لأفعالٍ، والتصرّف إزاء أفعالٍ كهذه غير متحرّر من "ردّة فعلٍ". الأفعال يصنعها ناهبو البلد وقاتلو أبنائه وبناته، وردود الفعل حكرٌ على أفرادٍ، يتصرّفون بناءً على حاجةٍ، أو لمطلبٍ خاص.
وفاة الزميل عدنان الحاج، مسؤول قسم الاقتصاد في الصحيفة البيروتية "السفير"، بعد أعوامٍ من معاناة صحّية ونفسية قاهِرة. زملاء وأصدقاء يُردّدون أنّ معاناته (والبعض يقول "موته") تبدأ منذ إقفال "السفير"، مطلع عام 2017. الحاج، أحد أبرز الصحافيين الاقتصاديين اللبنانيين، يُرافق الصحيفة منذ بداياتها، وإقفالها خرابٌ يتمدّد في جسده وروحه وذاته، كذاك الخراب الذي ينهش صحافةً وإعلاماً لبنانيّين، قبل وقتٍ على إعلان البداية الرسمية للانهيار اللبناني المتكامل.
طعن الروائي البريطاني سلمان رشدي، بعد سنين على فتوى الخميني بإهدار دمه (14 فبراير/شباط 1989)، بسبب "الآيات الشيطانية" (1988). مشهدٌ متوقّع، فإعلان الحكومة الإيرانية، رسمياً، "عدولها عن أداء الفتوى" (24 سبتمبر/أيلول 1998) غير قادرٍ على "إلغائها"، وهذا "وفقاً للشريعة الإسلامية" (جايمس هاملتن وأليسون فلوود، في "سانداي هيرالد" و"ذا غارديان"، 16 فبراير/شباط 2003 و12 إبريل/نيسان 2012).
لرشدي حضورٌ سينمائي/تلفزيوني مباشر. مشاركاته التمثيلية قليلةٌ للغاية، وظهوره في الأفلام عابرٌ. في "أصدقاء بيتر" (1992) لكينيث براناه، يوقّع نسخاً من "الآيات الشيطانية"، في لقطةٍ مُختصرة كثيراً، و"ظهوره فيها يُمكن ألّا يُلاحَظ"، كما في قولٍ نقديّ. في "يوميات بريدجت جونز" (2001) لشارون ماغواير، يُسأل في مطعمٍ عن الحمّام. أمّا في "ثمّ وجدَتْني (Then She Found Me)" لهلن هانت (2007)، فيؤدّي دور طبيبٍ متخصّص بالموجات فوق الصوتية. تلفزيونياً، له إطلالة واحدة في "اكبح حماستك" (Curb Your Enthusiasm)، للاري ديفيد (فكرة وإنتاجاً وتمثيلاً)، في الحلقة الثالثة من الموسم التاسع (2017).
هذا لا يُعوَّل عليه، تمثيلياً. مشاركاته التمثيلية منضويةٌ في إطار شهرةٍ، يمتلكها الروائي ذو الأصل الهندي بفضل رواياتٍ، يعتبرها نقّادٌ قلائل أهمّ بكثير، فنياً وجمالياً، من "الآيات الشيطانية"، التي تُخرِّب حياته منذ إصدار الفتوى، وتدخله في الاختفاء، وتمنحه اسماً آخر، جوزف أنطون.
اشتغالاته الأخرى قليلةٌ أيضاً. أبرزها وثائقيّ بعنوان "لغز منتصف الليل" (1988)، لجيوف دونلوب: رحلة رشدي في الهند وحولها، لاكتشاف لغزها، المتمثّل بسؤال أساسي: ما الذي يجعل هذا "الحشد" من الهويات الوطنية المنفصلة، والثقافات المتصارعة، والأديان المتحاربة، أمّةً؟ "لغزٌ"، يجهد رشدي، في لقاءات وبحثٍ ومعاينات، في العثور على نبضٍ أو حالةٍ أو انفعالٍ أو قول، يُجيب، أو يحاول أنْ يُجيب عليه. أمّا "أطفال منتصف الليل" (2012) لديبا مِهْتا (هندية الولادى، تُهاجر إلى كندا عام 1973)، فاقتباسٌ سينمائي لروايته نفسها (1981)، كاتباً له السيناريو، الذي يسرد حكاية ولدين يولدان لحظة استقلال الهند عن بريطانيا (15 أغسطس/آب 1947).
تمثيلٌ عابرٌ
اللقطات التمثيلية العابرة تكاد تُنسى، وظهوره مع لاري ديفيد لن يتغاضى عن "القضية" نفسها، أي تلك الفتوى التي يبدو أنّ المشتبه فيه بطعنه، هادي مطر (24 عاماً)، يتذكّرها الآن، فيُنفِّذ محتواها الصادر قبل ولادته بأعوامٍ عدّة. مع ديفيد، هناك شيءٌ من الفُكاهة الساخرة، وجدّية كاتب بريطاني صارمةٌ، تُقابِل السخرية الفاقعة للأميركي اليهوديّ (ديفيد).
الوثائقي مختلف، واشتغاله مرويّةٌ تفاصيلُه في "جوزف أنطون ـ سيرة ذاتية" (الترجمة العربية لأسامة إسبر، منشورات الجمل، بيروت ـ بغداد، الطبعة الأولى، 2021) بأسلوبٍ ممتع، رغم ما يشوب الترجمة من هناتٍ قليلة: "ستحلّ الذكرى الـ40 لاستقلال الهند في الحال. أقنعته صديقته جين ويلزلي، وهي منتجة تلفزيونية (...)، بأنْ يكتب ويُقدّم فيلماً وثائقياً، بطول فيلمٍ عادي، "عن حال الأمة" للقناة الرابعة". يُضيف راوي السيرة الذاتية أنّ الفكرة كامنةٌ في تجنّب الشخصيات العامة والسياسية بشكل كامل، "أو تقريباً بشكل كامل"، وتقديم "صورة عن الهند في سنّ الأربعين، أو تصوّر حول "فكرة الهند" من خلال أعين وأصوات الهنود الذين في سنّ الأربعين". يُشدّد الراوي على أنّ هؤلاء لن يكونوا "أطفال منتصف الليل تماماً، بل أطفال عام الحرية، على الأقلّ" (ص. 105).
تُرى، من يقرأ "الآيات الشيطانية" كنصٍ، سابقاً والآن؟ نادرون هم الذين يكتبون رأياً نقدياً صافياً بها، عند صدورها، وغداة إعلان الفتوى، ومع لحظة الطعن. حرية التعبير "مبدأ جبّار" (تعبيرٌ لرشدي)، لكنّه غير نافعٍ دائماً في نقاشٍ، يُتوقّع أنْ يكون مفيداً في تفكيك النص وتحليله، واستنباط ما فيه من إشارات وأقوال وحالات ومعانٍ.
يستعيد جوزف أنطون الفترة العصيبة، التالية على الفتوى الخمينية (ص. 145): "حين سأله الأصدقاء ما الذي يستطيعون فعله كي يُساعدوه، غالباً ما توسّل قائلاً: "دافعوا عن النص". كان الهجوم مُحدّداً جداً، لكنّ الدفاع كان عامّاً في الغالب، يستند إلى المبدأ الجبّار لحرية التعبير. كان يأمل، وغالباً ما شعر بالحاجة إلى ذلك، بدفاع مُحدّد أكثر، كمثل الدفاع عن الجودة الذي تمّ في حالات كتب أخرى تعرّضت للهجوم، مثل "عشيق السيدة تشاترلي" و"يوليسوس" و"لوليتا" (...)".
هذا حاصلٌ مع أفلامٍ سينمائية، يُهاجمها متشدّدون قبل مشاهدتها. "الإغواء الأخير للمسيح" (1988) لمارتن سكورسيزي: حملةٌ عنيفةٌ قبل المُشاهدة، غير معمولٍ بها عند صدور الرواية (1954) لنيكوس كازنتزاكيس. أفلامٌ لبنانية ومصرية تتعرّض لحملات تشويه ورفض وتهديد، وبعض المُشوِّهين والرافضين والمُهدِّدين مثقفون وكتّاب وصحافيون، غير مُشاهدين تلك الأفلام قبل إبداء آرائهم هذه فيها.
للسينما حضورٌ في اقتحام مصرفٍ، وحجز رهائن، والمطالبة بمالٍ. بسام الشيخ حسين غير سارقٍ، كبعض الشخصيات السينمائية، لأنّه يُطالب بحقٍّ له، تنهبه سلطة حاكمة (سياسة. اقتصاد. مصارف). تصرّف الشيخ حسين قابلٌ لنقاشٍ، لن يحصل في بلدٍ منهارٍ، ومليءٍ باصطفافات متطرّفة، دفاعاً ومعارضةً، والأخيرة تبلغ، أحياناً، حدّ التهديد بالقتل لكلّ من يُخالِف "رأي" جماعة "فائض القوّة". فيسبوكيون عديدون يعتبرون الشيخ حسين بطلاً، مدافعين عنه بشراسة ضد طغمة مصرفية وسياسية حاكمة. بعضهم يقول إنّ الاقتحام متأخّر، وبعضهم الأقلّ يستعيد صوراً لآل باتشينو في "بعد ظهر يوم حار جداً (Dog Day Afternoon)"، الذي يُخرجه سيدني لوميت عام 1975.
الاستعادات السينمائية منفتحةٌ على مسائل مرتبطة بفعلٍ كهذا: اقتحام مؤسّسة عامة. احتجاز رهائن. مفاوضات. نهاية مطاف، سلباً أو إيجاباً. سؤالان يُطرحان لحظة انتشار نبأ اقتحام المصرف اللبناني: تُرى، هل تمتلك القوى الأمنية اللبنانية مُفاوِضاً بارعاً، كحال أولئك الذين يظهرون في أفلامٍ أميركية؟ هل هناك تخصّص احترافيّ لدى تلك القوى نفسها، في مجال المفاوضات مع محتجزي رهائن؟
هذا غير حاصلٍ في مسألة "فدرال بنك". المفاوض الوحيد، البارز في مشهد الاقتحام والاحتجاز، يُدعى حسن مغنية، رئيس "جمعية المودعين". المفاوضة عادية. إقناع الشيخ حسين نابعٌ من رغبةٍ في إنهاء المسألة بأقلّ ضرر. "المتّهم" يُهدِّد بشنق نفسه في مركز للقوى الأمنية، بعد حصوله على مبلغ من وديعته (35 ألف دولار أميركي فقط)، وتسليم نفسه لها.
لا تشابه في هذا، إطلاقاً، مع "المفاوِض" (1998) لأف. غاري غراي؛ أو للحاصل في "مدينة مجنونة" (1997) لكوستا غافراس؛ أو لـ"الحدوتة" المروية في "الإرهاب والكباب" (1992) لشريف عرفة. الاختلافات بين هذه الأمثلة، القليلة للغاية، شديدٌ. لكلّ فيلمٍ هدفٌ وموقفٌ وكشفٌ وانتقادٌ. لكنّ المشترك بينها أنّ "المحتجِز" يريد حقّاً، لكنّه يجد نفسه سريعاً في موقفٍ ضاغطٍ وقاسٍ، وغير متوقّع. بسام الشيخ حسن قادمٌ إلى المصرف لتحقيق هدفٍ: يريد حقّه، لا أكثر. أمّا السبب (دفع تكاليف المتابعة الصحية لوالده المريض) فغير مهمّ، لأنّ الوديعة حقٌّ له، أكان والده مريضاً أم لا.
مشتركات بين الصورة والحياة
استعادة أفلامٍ كهذه، وغيرها كثيرٌ، غير هادفةٍ إلى وضع بسام الشيخ حسين في مصاف شخصياتٍ سينمائية، بعضها واقعيّ، وبعضها الآخر متخيّل، لكنّه مستلّ من أناسٍ حقيقيين. القهر والخيبة والضغوط تدفع المرء إلى ارتكاب فعلٍ، يُعتبر "مخالفاً للقانون"، رغم أنّ الفعل متأتٍّ من مخالفة آخرين للقانون. شخصيات سينمائية كهذه غير راغبةٍ في ارتكاب "جُرمٍ"، لكنّ الضيق والاختناق، الناتجين من تصرّفات، غالبيتها "خارجة على القانون"، يحثّان المرء على فعلٍ، يراه طبيعياً، ويظنّ أنّه قادرٌ على منحه حقّه.
في السينما، يبلغ التفاوض مرتبة إنهاء الفعل، إما لصالح "الضحية/المتّهم"، أو لغير صالحه. غالباً، تكون النتيجة إيجابية. في الحياة، يخرج بسام الشيخ حسن من فرع مصرفٍ، يُعامِل المودعين/المودعات بشكلٍ خارج على القانون، إلى زنزانة قوى أمنية، "تطبِّق القانون" على البعض، مع أنّ واجبها تطبيقه على الجميع.
في السينما، يجوز وجها العملة: تمكّن فردٍ من إحقاق حقّ، بانتقامه من خارجٍ على القانون، ولو بخروجه هو على القانون؛ أو عدم تمكّنه، والقانون له بالمرصاد. أفلامٌ كهذه غير معنية، فعلياً ومباشرة، بهذه المسألة. أمورٌ أخرى تُكشف انطلاقاً منها: فسادٌ في إدارات سيئة، ومصالح عليا، وأكاذيب. "داخل الرجل" (Inside Man) لسبايك لي (2006)، مثلاً، ينتهي بثأرٍ فردي من عجوزٍ، صاحب مصرفٍ كبير، بسبب فعلٍ يرتكبه شاباً أيام النازية. اقتحام مجموعة صغيرة فرعاً لمصرفه يهدف إلى فضحه. مصرف، رهائن، أسرار. هذا في السينما. حقّ مسروق، اقتحام، تهديد، مطالبة بالحقّ المسروق، تفاوض، خروج، اعتقال. هذا حاصلٌ في شارع المقدسي (الحمرا، بيروت).
رحيل الزميل عدنان الحاج منبثقٌ من وضع صحّي ونفسي قاسٍ. الموتُ نهايةٌ لن ينجو أحدٌ منها. ربط تدهور حالته الصحية ـ النفسية بإقفال "السفير" متأتٍّ من علاقةٍ بها، مُتشابهة بين زملاء/زميلات عديدين وبينها. بعض آخر ينجو من تدهور كهذا. هشاشة بعضٍ منهم/منهنّ أقوى من تمكّن بعضٍ آخر من مواجهة خيبةٍ وقهرٍ وانكسار. علاقة كهذه مرويةٌ في أفلامٍ، تُعنى بالصحافة والإعلام، في جوانب مختلفة، لكنّ إقفال صحيفة أو مؤسّسة إعلامية، وتأثير الإقفال على عاملين/عاملات فيها، يندر حضورهما، كحضور أفعال أخرى، كالمهنة وأخلاقها وقواعد المهنيّة الاحترافيّة وكيفية العمل مثلاً. هذه مسائل يُتقنها عدنان الحاج، ولا يحتاج إلى سينما "تُلقّنه" إياها.
فعلاً، "العالم يتداعى حولنا يا روكي".