"بقعة ضوء" على الجثث
عاد المسلسل الكوميدي السوري، "بقعة ضوء"، إلى الشاشة بجزئه الـ15، بعد توقفه عامين. هذا الجزء من تأليف مجموعة من الكتاب، وإخراج أيضاً عدد من المخرجين. كل حلقة تضم لوحتين، بُثّ منها إلى الآن سبع حلقات، واخترنا أن نكتب عنه قبل انتهائه، لتكرار موضوع واحد سبع مرات على مدى اللوحات الـ14 التي عرضت.
ما تكرر في الحلقات هو مفهوم الجثة، سواء بالمعنى الحرفي، أي جثة شخص مات، أو آخر على وشك الموت، أو يحاول أن ينام (الوضعية المشابهة للموت). تحضر هذه الجثة في الشارع، أو في المستشفى، أو في نموذج شخص دفن حياً. كلها حكايات تشير إلى وضعيات يفقد فيها الفرد كرامته الإنسانية، ويتحول الجسد الميت، أو التعامل مع الموت، إلى حادثة يوميّة متكررة.
اللافت في هذه الحلقات، أن الجسد الميت مرئي، يتكرر وجوده في الشارع كجزء من إيقاع العمل. السلطة السياسية لا دور لها في "إخفائه"؛ الواجب المفترض أن تعمل به بوصفها ضامناً لتعريفات الموت، ما يحول الجثة إلى شأن شديد المحلية، على العابرين والمارة التعامل معه. الكوميديا هنا تخفي وراءها ملامح من سياسات الموت، حيث تعرّض السلطة مواطنيها للموت، وتحرمهم من شروط الحياة، لتصبح الجثة، بهذا، علامة على عطب في النظام السياسي، كما تقع مسؤوليتها على الأفراد أنفسهم.
تحضر الجثة أيضاً بوصفها حدثاً غير طارئ؛ أي أن موت أحدهم لا يثير حفيظة أحد. هي جزء من تدفق الحياة في ظل حالة الاستثناء؛ فتجار الأعضاء أنفسهم عاجزون حتى عن إيجاد "مادة" مناسبة لعملهم. لا أحد يصلح حتى لأن يموت كي يتم حصاد أعضائه، وكأن شرط الحياة نفسه في أدنى حالاته، لدرجة أن التكوين البيولوجي للأفراد لا يصلح كي يتم الاتجار بأعضائهم الداخليّة. أي أن وحدة الجسد الإنساني ضمن الشرط السوري، لا تصلح للحياة، سواء كان هذا الجسد كتلةً، أو أعضاء غير متصلة، ما هدد حتى أشد أنواع تجارة الحرب، تلك التي تستفيد من الموت واحتمالاته المتعددة لتحصيل الأموال.
هناك أيضاً إشارات سياسية إلى مفهوم "الخارج"، والمقصود الدول الأوروبيّة التي يقطنها كثير من السوريين، وكيف أن هذه الدول تهتم بالحيوانات على حساب الأفراد، إلى حد تضحية بعض العمال في سورية بزميلهم ودفنه حياً من أجل إنقاذ شاة وقعت في البئر. هنا، نتحذلق ونبالغ في التأويل، لكن الواضح أن هناك متخيلاً داخل سورية عن طبيعة العلاقة الجديدة مع منظمات المجتمع المدني ومموليها الأوروبيين؛ صور الموتى والجثث والدماء لم تعد تدر النقود، بالتالي لا بد من التوجه والالتزام بالتعليمات الجديدة، من أجل تبييض الوجه أمام "الآخر" الأوروبي.
تكرار نموذج الجثة ووضعياتها يخلق الرعب لدى المشاهد، أو على الأقل؛ المشاهد القادر على رصد طبقات الرقابة والإحالات والنماذج التي تتعامل معها، لكن أشدها بعثاً على القشعريرة هي الجثث في الشارع أو ضمن الحياة اليوميّة، تلك الصور التي أصبحت اعتياديّة.
المثير للاهتمام، في هذه الحالة، أن "الموت" لا يطبق من قبل من يمتلك السلاح أو يمارس العنف، بل يحضر بسبب طبيعة العلاقات بين الافراد أنفسهم. لا توجد دلالة أبداً على أسباب الموت، حتى الطبيعيّة منه لا تحضر. كأننا هنا أمام مقولة استعمارية يمينيّة يلخصها المثل اللاتيني: "الإنسان ذئب لإنسان" (Homo homini lupus). المقولة تفترض أن غياب النظام السياسي أو سقوطه، يحوّل الأفراد إلى ذئاب، أي أفراد مستعدين للقتل من أجل النجاة.
وهذا ما يكشف سيطرة السردية الرسميّة، غياب أي ذكر للمسبب الرئيسي للعنف وفقدان الحياة (أي النظام السوري) يجعل "الموت" شأناً يتعلق بعلاقات الأفراد هم يتسببون إثر فسادهم، أو طمعهم، أو وجودهم في سورية نفسها وعدم رحيلهم، تلك المساحة المفتوحة على احتمالات الموت وإنتاج الجثث.