أخرَج مايكل سارنوسكي في "خنزير (Pig)"، فيلمه الجديد (2021، 92 د.)، الممثلَ نيكولاس كايج من عباءة الرجل الخارق التي لبسها في أفلامٍ عدّة، وأصبحت، مع الوقت، صورة راسخة في ذهن فئة واسعة من الجمهور وصنّاع السينما، مانحاً إياه دوراً رئيسياً مُسرفاً في الدراما وعناصر الواقع. بتأديته شخصية روب، أظهر كايج قدرات فنية، مَكّنته من التوحّد فيه: شَعرٌ أشعث وكثيف، وملامح حزينة وكئيبة، بعد أن انطفأت في وجهه مشاعر الفرح.
يبحث روب عن نبات الكمأة الموسمية، التي يُقايضها بما يحتاج إليه من طعام مع مشترٍ يأتيه كلّ أسبوع بسيارته الفارهة من المدينة، مُقدّماً له حاجاته، وآخذاً منه ما جمعه من كمأة في أسبوع. بعد مغادرته، يبقى روب في تلك الغابة، يُغالب العزلة مع خنزير يؤنس وحدته، ويساعده في العثور على الكمأة.
استطاع مايكل سارنوسكي (شارك في كتابة السيناريو مع الكاتبة والمخرجة والمنتجة فانيسا بلوك) تأسيس علاقة متينة بين روب والخنزير، الذي يُعامله كفرد قريب منه. يُطعمه مما يطهو، ويتواصل معه، ويهتمّ كثيراً بأمره. شكله مُختلف، فلونه رمادي، وشعره كثيف وأملس يحيط بأنفه الكبير. هذه معطيات أظهرت مدى أهميتها لدى روب، الذي ينظر إليه كشخصٍ. في الوقت نفسه، جعله سارنوسكي جسر تواصل مع المتلقّي، الذي أحبّه واستلطفه انطلاقاً من السلوك الظاهر في المقدّمة. لهذا، تفاعل مع الصدمة التي حدثت عندما تمّ الاعتداء على روب في كوخه الجبلي وسرقة الخنزير. هذا فعلٌ برّر عملية البحث الشاق عنه، كما استعان روب بمعارف قدماء للتحقيق في خطفه/ سرقته، ومعرفة الفاعلين.
كما هضم الجمهور عملية البحث هذه، المُبرّرة بالنسبة إليه، لأنّه سيشعر بضرورة ما يفعله روب لاسترجاعه، فيعود معه إلى البيت. الخنزير يستحق هذا الجهد والوفاء، وهذا مطلب عاطفي، يتشارك فيه روب والجمهور المتفاعل مع الأحداث، وتفاعله إيجابيّ، ما كان ليتمّ بذاك المنطق لولا التأسيس المسبق له بطريقة عميقة. لهذا، تمّ إعفاء المخرج من احتمالية التذمّر، الذي كان من الممكن أن يحدث لو قُدِّم الأمر من دون اهتمام. عندها، يتساءل الجمهور عن جدوى البحث عن خنزير وسط المدينة، أو جدوى أن يجازف مالك الخنزير أو مرافقه التاجر أمير (ألكس وولف) بعملية البحث عن حيوان، يُمكن أن يعثر على غيره بثمنٍ أقلّ.
هذا التفكير شغل بال التاجر. لكنّ جرح الفراق يختلف عند روب، الذي خرج من عزلته الاختيارية بعد 15 عاماً كاملةً أمضاها في الغابة. المسألة، بالنسبة إليه، مسألة حياة أو موت، وهذا مبدأ يُدافع عنه حتّى الرمق الأخير.
التأسيس الجيّد، وخلق عملية تواصل عاطفي بين الجمهور وشخصيات الأفلام، تناولهما مخرجون كثيرون. هذا سبيلٌ وحيدٌ لتبرير الأحداث، حتّى لو كانت الشخصيات شريرة وغير سوية تمارس أفعالاً غير قانونية ومنافية لقيم المجتمع. رغم هذا، يخلق البناء العميق تعاطفاً مع الشخصيات، خيّرة كانت أو شريرة، كما فعل نِك كاسافيتس في مقدمة "جون كيو" (2002، 112 د.) مع دنزل واشنطن، بتقديمه الطفل مايكل بقوالب مختلفة، أظهر فيها ذكاءً متّقداً، بالإضافة إلى مقالبه المضحكة، وشكله اللطيف، وحركاته المميزة. أكثر من هذا، رسم أحلامه المستقبلية. لكن، بعد هذا كلّه، تبيّن أنّ عمر الطفل مُحدّد بفترة زمنية، إن لم تُجرى له عملية جراحية. إمكانيات والده، جون كونسي، محدودة جداً. نفدت منه السبل لتنفيذ هذا الحقّ المشروع، فقرّر حجز رهائن في المستشفى للضغط باتّجاه إجراء العملية. رغم أنّ هذا الفعل جنونيٌّ، ومُجرَّم قانونياً وأخلاقياً، أيّده الجمهور، وتعاطف معه، ودعمه بالتظاهرات.
هذا التفاعل العاطفي أوجده مايكل سارنوسكي في "خنزير"، إذ تحوّل الأمر، بالنسبة إلى المشاهدين، إلى عملية خطف إنسان، لا مجرّد خنزير. إنّه الشعور نفسه لروب، القائل إنّ الأمر لا يتعلّق ببحثٍ عن الخنزير ليجلب له الكمأة، فهو قادرٌ على العثور على الكمأة بسهولة، بل لأنّه يحبّه. هكذا تغيّرت الأحداث، وتغيّر معها سلوك التاجر، الذي كان ينظر إلى المسألة من ثقب المصلحة والربح.
"خنزير" أول تجربة إخراجية في الفيلم الروائي الطويل لمايكل سارنوسكي، القادم إلى السينما من عالمي التلفزيون والترفيه. تجربة مؤثّثة بلغة سينمائية قوية، لا تُظهر أيّ تقاطع مع التلفزيون، ما يدلّ على أن صاحبها يملك رؤية ومرجعية سينمائيتين. مخرج مجازف ومغامر، يعرف جيداً ما يقوم به. اختار ممثلاً حاضراً كنجمٍ في السينما العالمية، وإن كان الحضور مُكرّساً في اتجاه وصورة مُكرّرين. لكنّ رغبته في التغيير ومبدأ إدارة الممثل جعلاه يدفع كايج إلى تأدية دور مهمّ للغاية، سيفتح له آفاقاً أوسع في هوليوود مستقبلاً.
تمكّن سارنوسكي من أن يُخرج من كايج أحاسيس جمّة، كالعزلة الاختيارية، التي جعلها منطلق حياته، مبتعداً فيها عن المدينة وعوالمها الضاجّة بالخداع والمكر والفوضى. ابتعاده عنها ناتجٌ من تعرّضه لصدمةٍ، أنسته نجوميته في عالم الطبخ، هو الموصوف كـ"أعظم طهاة المدينة". لكنّه عاد إلى المدينة مجدّداً بعد تعرّضه لصدمة أخرى في الغابة، فلحقته شرور المدينة وسهامها الحادة. رغم هذا، صالحته العودة مع مسائل عالقة، وقرّبته أكثر من مصادر الوجع، التي ساهمت في صُنع حياة جديدة اختارها بقناعة.
أشبع سارنوسكي هذه الشخصية بمسحة فلسفية عن الوجود وفكرة البقاء والفناء، وعن حتمية الموت، وتعرّض المدينة للمحو جرّاء مياه جارفة. هذا ما قاله روب لرفيقه التاجر، الذي أجابه بأنّه سيذهب إلى قمة الجبل لينجو. روب أكّد له عدم النجاة، مهما كان نوع الهروب، في إحالةٍ واضحة إلى الأساطير الدينية، التي تناولت فكرة الغرق والفناء، وسفينة النجاة، والتأسيس لحياة جديدة، بعد أن تذهب السيول بالخاطئين. روب استبق الأمر، وذهب إلى الغابة مؤسّساً لنفسه مدينة فاضلة مع خنزير، بعيداً عن صانعي الشرّ في المدن. في الوقت نفسه، ينتظر السيول التي ستجرف الجميع، وتُفني المدينة بكاملها. هذا المنطلق الفلسفي في شخصية روب زرع عمقاً ورؤية فيه، وأحاط الفيلم بهالة من الجدوى الفنية، التي ستجعله يعمِّر طويلاً في ذاكرة السينما، التي لا تُسقِط الأفلام الجيدة من حساباتها.
"الخنزير" عمل يُمجّد الصداقة والعزلة والمواجهة والوفاء. سُردت قصّته بطريقة سلسة وشيّقة، ترك فيها مايكل سارنوسكي باب التأويل مُشرّعاً، مُقدِّماً درساً إنسانياً عميقاً، بالإضافة إلى جماليات عدّة، متمثّلةً في زوايا التصوير، وحُسن اختيار أماكن الأحداث، خاصة الغابة، وانعكاس الظلّ والنور فيها، وليل المدينة، وتفاصيلها البعيدة عن الأضواء. كما استطاع أن يصنع من البحث عن الكمأة قصّة متكاملة، أظهر فيها المراحل التي تمرّ من خلالها هذه النبتة، بدءاً من إخراجها من الأرض، وانتهاء بوصولها إلى موائد أغنياء المدينة في مطاعمها الفاخرة.