لا شك في أنّ المقاولات الإعلامية أضحت لها اليوم مكانة بارزة داخل النسيج الإعلامي المغربي، في وقتٍ يزداد فيه احتكار الدولة للقطاع السمعي-البصري، إذ تمتلك أكثر من سبع قنوات تلفزيونية تُشرف على موادها وإدارتها وتحريرها رسمياً، وتسعى جاهدة إلى الإمساك بتلابيب الإعلام المغربي واحتواء شركاته وقنواته، فهي من تسنّ القوانين، وتضع شروطاً صحافيّة على هواها، من دون تدخّل أيّ كونفدرالية أو جمعية أو أي تكتّل، وإنْ فعلت ذلك داخل بعض الاجتماعات، فإنّ رأيها ــ وبتواطؤ من جهات ــ سرعان ما يتمّ فرضه وبلورته وتكريسه داخل الصحافة المغربية.
مشهد كهذا يفترض جلسات نقاشٍ واستماعٍ لمختلف العاملين في الصحافة على اختلاف أنواعها وألوانها، أمام واقع مغربي ينغل بالمفاجأة السياسيّة والتصدّعات الاجتماعية. على هذا الأساس، يسعى صحافيون وصحافيات إلى تأسيس مقاولات إعلامية خاصة، لتقديم محتوى نقدي مغاير. النيّة للتأسيس قادرة على تخليص الصحافة المغربيّة من ارتباكها، وبلورة خطابٍ صحافي أصيل لا يستند إلى توجّهات المؤسّسات الرسمية والخنوع لأساطيرها، بل تكون مواقفها نقدية تجاه أشكال السلطة كافة.
ولأنّ المؤسّسات الرسميّة استوعبت في الآونة الأخيرة خطر الإعلام والصورة على مخيّلة الفرد، ومكانة هذه الوسائط والسُلطة الرابعة في تغيير حياة الناس ونقل قصصهم والتأثير في السياسات العامّة والموقع الجيوسياسي للبلد، فإنّها أضحت "تشجّع" الكثير من الخريجين على إقامة مقاولات صحافّة خاصة، لكنّها سرعان ما تعرقل مسارهم بوثائق إدارية قاهرة والتزامات مجحفة في حقّ أيّ مقاولة واعدة. تكون هذه الخطوة سبيلاً إلى التخلّي عن الفكرة تدريجياً، ليضطر أغلب الصحافيين الشباب إلى الاشتغال في الجسم الصحافي الرسميّ أو الهجرة.
غير أنّ ثمّة مقاولات صغرى تتمكّن من مُقاومة هذا الواقع المتشنّج، عبر ضبط وثائقها وهياكلها الإدارية. لكنّها سرعان ما تحبط بسبب ضعف الدعم وشحّه أو غيابه تماماً.
كلّ هذا مقابل مقاولات إعلامية "كبرى" تستفيد من الدعم دورياً أو سنوياً، لكن بالتّماشي مع سياسة المؤسّسة الرسميّة. لذلك، لا يستغرب القارئ هذه المنابر أنّ موادها عبارة عن تغطيات لمشاريع سياسية واجتماعات إدارية هنا وهناك، في غياب تام لطرح الأسئلة حول الغاية من هذه القرارات المجحفة في حقّ الناس والمجتمع ككلّ.
وهذا الأمر ساهم في ضعف صورة وموقع الصحافي داخل المجتمع المغربي، إذ أضحى في وضعية هشّة ومن دون رأي مؤثر في الأوساط المجتمعية، لأنّ المادة الحقيقية المنتظرة أصبح يُعرف مسبقاً أنّها "تُطبخ" قبل بثّها على القنوات الرسميّة. ويضطر القارئ المغربي إلى الاتّجاه صوب صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لمعرفة حقائق الأحداث وتطوّراتها الآنية. فالمدوّنون المغاربة تفوّقوا على شركات إعلامية مغربيّة عتيدة غدت مقرّاتها مجرّد أمكنة فولكلورية، أمام واقع إعلامي عربيّ يلهث وراء التحوّلات العميقة التي طاولت الجسد الإعلامي منذ تفشي جائحة كورونا تحديداً.
على هذا الأساس، فإنّه بقدر ما يشكّل الدعم الرسميّ سبيلاً لتكريس المقاولة الإعلامية المغربيّة، يعدّ نقمة على مهنيتها وأخلاقيات عملها، وحاجزاً منيعاً ضدّ بلورة حريّة النقد والتعبير، ذلك أنّ منسوب النقد ينخفض، ويُنسى التحليل، ويُكتفى بالوصف والتغطية والتثمين والتبريك.
لذلك، فإنّ احتواء كهذا من لدن الدولة لا يرتبط بمسألة تقنين المهنة وإعطاء قيمة أكبر للمؤسّسة الإعلامية، واحترام حقوق الصحافيين والرفع من أجورهم وتكريس حريّة الصحافة في نقد السُلط والاختلالات والوقائع والتحوّلات، بل فقط من أجل إحكام قبضتها على الجسم الصحافي وتدجينه باسم المقاولة، حتّى يغدو مجرّد أداة من أدوات بسط هيمنتها على حقوق المستضعفين والفقراء.
هذا لأنّ هذه الجهات لا تفكّر في الاشتغال على إبراز المقاولات الإعلامية في المغرب كوسيلة فرض سلطة "الصحافي" على سلطة "الدولة"، وفق علاقة تقوم على احترام أخلاقيات المهنة وعدم الانصياع لقرارات السلطة الرسميّة. هذا مع أنّ المشكل الأساس يبقى مرتبطاً بالدعم الرسمي وغياب التسهيلات الإدارية التي تُقدّمها الدولة لتأسيس وتوسيع هذه المقاولات، ما يجعلها من العوامل الحاسمة التي تتحكّم في هشاشة القطاع، على الرغم من الدور الذي يلعبه "المجلس الوطني للصحافة" في هذا المجال. ففي الوقت الذي تنهار فيه البنايات على أجساد الناس من لدن شركات البناء الكبرى المتوحشة، أو في لحظة وجود الفرد المغربي في الشارع للمُطالبة بحقوقه اليوميّة المشروعة أو إلغاء جواز اللقاح أو رفع شعارات المطالبة بحريّة صحافيين، تكون هذه المقاولات الصحافية مشغولة بحجم ونسبة الدعم والمساعدة التي تلقتها من الوزارة المعنيّة مقارنة بمقاولاتٍ أخرى.
هكذا تضيع فكرة المقاولة الإعلامية في المغرب، ويتراجع الدور الدفاعي والمدني للصحافي، ويتلاشى حلم "الإعلام البديل" القادر على تكسير شوكة السلطة وجبروتها. وبدل أن تصنع هذه المقاولات خطاباً صحافياً نقدياً قوياً مغايراً عن الإعلام الرسميّ، فإنها تغدو مجرّد نموذج مستقّل لإعلام رسميّ ستكون عليه مستقبلاً. لذلك، يضع مهنيون وصحافيون أوّل شرط تنظيميّ ينبغي على هذه المقاولات المغربيّة العمل به، قبل التفكير في إنشاء مقاولات صحافية، وهو البحث عن دعم خارجيّ، أو صيغة تعاقدٍ مهنيّ مع جهات أخرى، يتماشى مع قناعاتها وأفكارها ومواقفها تجاه المجتمع.