انتصر الكوري الجنوبي بيون سونغ هيون، في جديده "صانع الملك" (2022)، للوثيقة التاريخية، مُعلياً من شأنها، عبر رحلة مُفترضة إلى الماضي، بتركيزه على فترة مهمة من تاريخ كوريا الجنوبية، انطلاقاً من صراعاتٍ سياسية على الحكم، ومؤامرات يقوم بها النظام الحاكم للاحتفاظ بالسلطة، مستعملاً أجهزته الأمنية والمال، وإمكانيات الدولة لإطالة حكمه.
في المقابل، أظهر المطبّات السياسية الكثيرة، الموضوعة أمام المعارضة لإبقائها على هامش السلطة، ومحاصرتها بمشاكل وصعوبات، حتى لا تقوى على منافسة رجال الرئيس وحاشيته. لكنْ، هناك دائماً من يملك إرادة حديدية للخروج من الدائرة المغلقة، كحالة المعارض السياسي، المنتمي إلى الحزب الديمقراطي، كيم وون بوم (سو كيونغ غو)، الذي بدأ من الصفر، بعد فوزه على الجمهوريّ كيم بينغ، في مقاطعة "موكبو"، رغم أنّ الأخير من رجال الرئيس، الذي زار مقاطعته، وساعده في تنشيط حملته الانتخابية. وهذا جعله يخطو خطوته الأولى في المجلس الوطني.
احتاج بيون سونغ هيون إلى مُسبّب تاريخي، يتحجّج به أمام المُشاهِد، فينقل عبره تلك الأحداث المهمّة في كوريا الجنوبية، لتثبيت نظامها الديمقراطي الذي تعيشه اليوم. تضحيات كثيرة ومؤلمة، دفع ثمنها نزهاء كثيرون، ومنهم كيم وون بوم، الذي شكّل حجر عثرة أمام النظام الجمهوري المستعبد. والمُسبّب رجل الظلّ المشهور سو تشانغ داي (لي سون كيون)، المنضمّ إلى مكتب حملة انتخابه، والذي استطاع إقناعه بألاعيبه وطرقه الملتوية في كسب الأصوات، عبر صنع مقالب، وسّعت شريحة الناخبين والمؤيدين له.
قبل أنْ يُنظّم سو حملة كيم، رفض الأخير طريقة عمله، عبر رسالةٍ وجّهها إليه، رسم فيها خطّته ورؤيته. عندما التقيا، حاول كيم أنْ يشرح له مبادئه السياسية النزيهة، قائلاً إنّ التغيير يجب أن يحصل سلميّاً، انطلاقاً من مبادئ الفرد ونزاهته، ومُستشهداً بقولٍ لأرسطو، "العدل يشكّل نظام المجتمع"، في تقديمه وجهة نظره السياسية، وطريقته النزيهة في مجابهة الأوضاع والمعطيات السلبية. لكنْ، لسو تشانغ داي حجّة قوية، وفهم عميق، بردّه عليه سريعاً مع قولٍ لأفلاطون، معلّم أرسطو: "لتنصر قضية عادلة، كُلّ وسيلة مقبولة". اقتنع كيم وون بوم جزئياً بطريقة عمله وأساليبه. لهذا، بدأ العمل معه، ونجح في محطّات عدّة، وفاز في انتخابات المجلس الوطني، بفضل هذا الرجل وألاعيبه السياسية، وفطنته الكبيرة، وبديهيّته في المواقف الصعبة، وحسن قراءته المشهد السياسي.
استطاع بيون سونغ هيون صوغ هذه الأحداث التاريخية المتشعبّة في سيناريو مُحكم البناء (شارك في كتابته مع كيم مين سو)، مُتجاوزاً المدة الزمنية التي حددّها في السياق السردي (أكثر من ساعتين)، من دون السقوط في الملل، الذي تتركه عادة أفلامٌ طويلة نسبياً. يعود هذا أولاً إلى كثرة الأحداث والتفاصيل، وهالة صنع البطل، وإنْ يُجرَّد البطل هنا من المعطيات الكلاسيكية، التي تجعله يستعمل عناصر مشروعة في فعل الخير. لكنْ، في حالة سو تشانغ، فإنّه يستعمل معطيات ملتوية لبلوغ الخير. لذا، تختلف سياقات السردية، وعبرها تختلف ظروف التلقّي، وطريقة التعاطي مع الموضوع.
نجح المخرج في المحافظة على إيقاع المدّة الزمنية، وتحكّم في الفصول كلّها، وجعلها تسير في مستوى جمالي واحد وقوي، وأشبع كلّ فصلٍ منها بما تحتاج إليه من إثارة وتشويق، لربطها مع الخطّ العام، الذي يُسيّر الحدث الرئيسي، وبالتالي حافظ على انتباه المُشاهِد، الذي سيستوعب معظم القيم التاريخية الموظّفة في الفيلم، لأنّه وضعها في إطار جمالي مناسب.
عادةً، ينعكس ذكاء كلّ مخرج في معطى جمالي معين. أي أنّ هناك عنصراً يغلب العناصر الأخرى. في حالة بيون سونغ هيون، تغلّبت آلية الصوغ التاريخيّ للأحداث على الجماليات الأخرى، بعد إشباعها بالمعطيات الضرورية، التي توسِّع دائرة التقبّل، ليتمّ تلقّيها والاتّعاظ ممّا فيها.
من هذه المعطيات، التي كانت بمثابة حجة هزمت الشكّ في التلقّي، دمجُ بعض الوثائق التاريخية من الأرشيف السمعي البصري، في مفاصل عدّة في "صانع الملك"، وتوظيفها بطريقة جمالية؛ وركَّب بعضها مع الشخصيات، كمشهد خطاب كيم وون بوم أمام أكثر من مليون شخص.
استعمال الوثيقة التاريخية الحقيقية لهذا الحشد، ودمجها في كادر واحد مع شخصية كيم: لذا، خلق المخرج معنيين مختلفين، الأول توليد الجمالية من هذا الدمج، وتحريض المتلقّي على تقبّل المشهد، على أنّه وثيقة تاريخية لا تقبل الشكّ، دعماً للاستهلال الذي بدأ به فيلمه، حين كتب على شاشة سوداء أنّ "هذا الفيلم مستوحى من أحداثٍ وشخصيات حقيقية، لكنّه من نسج الخيال". استهلالٌ مراوغ وذكي، كشخصية سو تشانغ، لأنّه حاول إقناع المشاهدين بتاريخية الفيلم، وفي الوقت نفسه تنصّل من كلّ مواجهة قانونية، يُمكن أنْ تظهر بعد عرض الفيلم، فالمؤكّد أنّ هناك أناساً لن ترتاح إلى المطروح فيه.
تنطلق حياة سو تشانغ داي في الفيلم من نقطة أساسية، جعلها شعاراً لحياته: "الغاية تُبرّر الوسيلة". فبهدف تحقيق هدفٍ نبيل، لا تهمّ الوسائل المستعملة، أياً كان نوعها. مثلٌ على ذلك ما ساقه المخرج في بداية الفيلم وخاتمته، انطلاقاً من قصّة واحدة مُشبعة بالرمزية، بعد أن اشتكى صديقه من سرقة بيضات دجاجته، وأمسكه جاره متلبّساً بهذا الجرم. عندما اشتكاه لرئيس القرية، لم يُنصفه، لأنّ السارق ابن أخيه، وقال إنّه بريء، والضحية في نظر الجيران باتت مدّعية وظالمة. عندما سمع سو تشانغ هذه القصة، اقترح حلّاً جذرياً: أخبره بأنْ يربط كلّ دجاجاته بخيط أحمر، ثم يمسك دجاجة منها، ويرميها في حظيرة جاره، ثم يستدعي الجيران ورئيس القرية، ويقول لهم إنّ هذا الجار سرق دجاجته. بالتالي، يحلّ المشكلة، ويُثبّت الجرم عليه.
في هذه القصّة، تتبيّن طريقة عمل سو تشانع. إنّها الآلية نفسها الذي استعملها مع صديقه السياسي، كيم وون بوم، وأوصله بها إلى الانتخابات الرئاسية. لكنّ الأخير تخلّى عنه، بعد أنْ ساومه عليه النظام الحاكم. عندما وجد سو تشانغ، الذي يعيش في الظلّ، نفسه وحيداً، بلا منصب ولا مستقبل، انضمّ إلى الخصم، وساهم في فوزه بالرئاسة، بألاعيبه ومقالبه، مع أنّه لم يرغب في هذا. الظروف حتّمت عليه ذلك، وليُثبِت لصديقه القديم بأنّه كان سبب نجاحاته المتعدّدة، وهذا حدث فعلاً.
أوجد بيون سونغ هيون لغة سينمائية قوية في "صانع الملك"، بفضل توظيفٍ جيّد للتصوير (جو يونغ راي)، وما يتّصل به من ضبط الإضاءة، واللعب بالظلّ والنور، لإبراز ملامح الشخصيات وانفعالاتها، مع كلّ سياقٍ وحدثٍ تاريخيّين. كما جسّد معطياتٍ، عكسها كمَشاهِد مُعبّرة، مثل قول سو تشانغ، الذي يعيش في الظلّ رغم دور كبير يقوم به، في مراحل عدّة في الفيلم: "كلّما كان النور أكثر ضياء، كان الظلّ أكثر قتامة". عندما بدأ العمل في جهة الرئيس، أخذ حقيبة من المال. وعندما نقل المخرج صورة ظلّه، جعله يسير في الشارع، مندمجاً مع ظلال أخرى، كأنّه يقول، عبر هذه الرمزية، بأنّ العيش في الظلّ يكون، أحياناً، أكثر بروزاً من النور؛ وعندما يفقد المرء مبادئه، يذوب في الظلال الأخرى، ولا يُصبح لوجوده أي معنى.