"مُهمّتنا، نحن المناضلون حالياً في مجال الإعلام المُعادي للإمبريالية، أنْ نكافح بكلّ قوانا في هذا المجال، وأنْ نتحرّر من سلسلة الصُوَر التي فرضتها الأيديولوجية الإمبريالية من خلال أجهزتها المختلفة في الصحافة والإذاعة والسينما والأسطوانات والكتب، إلخ.".
هذه كلمات المخرج الفرنسي جان ـ لوك غودار، في البيان الذي ألقاه عندما زار المقاومة الفلسطينية عام 1970، لإخراج فيلمٍ عن صمود الفلسطينيين وحركة فتح، بعد إخراجه 3 أفلام ثورية، عن العمّال في إيطاليا وبريطانيا، والثالث عن أحداث تشيكـوسلوفاكيا. وأكّد التالي: "بالنسبة إلينا كمناضلين في مجال السينما حالياً، المهام الملقاة على عاتقنا ما زالت نظرية. نحن لا نزال في مرحلة الاعتقاد بأنّ التفكير بشكل مختلف يصنع الثورة. وبهذا، نحن متأخّرون عشرات السنوات عن أول رصاصة أطلقها الجناح العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني ـ فتح".
ما سبق نُسج مع أحداثٍ أخرى عدّة، في كتاب "فرسان السينما: سيرة وحدة أفلام فلسطين.. أول مجموعة سينمائية ترافق بدايات حركة تحرر وطني"، للمخرجة والفدائية الفلسطينية خديجة حباشنة (دار الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 240 صفحة)، الذي يتضمّن 7 فصول و6 ملاحق. كان يُفترض بالكتاب أنْ يصدر عام 2019، بمناسبة مرور 50 عاماً على أول فيلم فلسطيني ثوري، يُعلن عن صورة الشعب الفلسطيني وثورته لتحرير أرضه. لكنّ ظروفاً أدّت إلى إصداره عام 2020.
الكتاب خطوة توثيقية بالغة الأهمية، تكشف أموراً عدّة مفاجئة، ليس سياسياً وتاريخياً فقط، مع انتقال الفلسطينيين من حالة إلى أخرى، بل في ما يتعلّق بخصوصية الفيلم الثوري، المُوجّه إلى الجمهور، والذي استطاع استقطابه مُجدداً، مُتميّزاً عن السينما التقليدية، الهوليوودية والعربية. وذلك وفق استطلاعات رأي أجريت على المُشاهدين حينها، بعد عرض أفلام أنتجتها "وحدة أفلام فلسطين"، بينها "بالروح بالدم".
يروي الكتاب ـ بأسلوبٍ مُشوّق، يقترب أحياناً من أسلوب السرد السينمائي ـ "قصة مجموعة سينمائية استثنائية في ريادتها، كأول وحدة سينمائية متخصصة، ترافق حركات التحرّر الوطني، مُسلّحة منذ البداية". ويتميّز بتعدّد وتنوّع الرُواة والمراجع والمصادر، الذين استقت منهم المؤلّفة معلوماتها. ساعدها في ذلك قُربها من مؤسّسي هذه الوحدة، كفدائية، وكزوجة وحبيبة لأحد هؤلاء الفرسان الـ3، الذين أسّسوا الوحدة، المخرج والفدائي مصطفى أبو علي، مدير الوحدة في بيروت بين عامي 1971 و1982؛ ومؤلّف كتاب "عن السينما الفلسطينية"، بالاشتراك مع الناقد السينمائي حسان أبو غنيمة (1975)، وكاتب سيناريوهات الأفلام التي أخرجها (30 تسجيلياً)، و4 سيناريوهات أفلام روائية طويلة: "المُتشائل" و"بانتظار السلام" و"الغريب" و"أيام الحب والموت". كما شارك في تطوير الأفلام التسجيلية المُنتجة في بيروت (1971 ـ 1980)، عن الموضوع الفلسطيني، والفِرق المُنتجة لها، القادمة من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والسويد والدنمارك وإيطاليا والاتحاد السوفييتي ومصر والبرازيل واليابان.
معظم حكايات الكتاب رواها مَنْ كان حيّاً أثناء العمل عليه، ومَنْ عاش بداية "الوحدة" وتطوّرها. اعتمدت حباشنة أيضاً على مقاطع مُوثّقة للفرسان الـ3، كتبوها بأنفسهم، أو قالوها في حوارات معهم، واستعانت بأقوال وكتابات مَنْ عاصروهم، بالإضافة إلى لقاءات مع ذويهم وأقاربهم، كما في الفصل الأول، "البدايات في عمان: مشاهد وروايات"، تحدّثوا فيه عن نشأة وطفولة الفرسان، وتوجّههم العلمي، وشغفهم، مع التنبّه إلى اعترافات المؤلّفة عن تجربتها الشخصية معهم.
الشخصان الآخران هما سلافة جاد الله، أول مُصوّرة عربية (درست التصوير في "المعهد العالي للسينما" في القاهرة)، والشهيد هاني جوهرية، الذي كان عائداً من لندن، بعد إنهائه دراسته.
تؤكّد خديجة حباشنة أنّ "البحث، وإجراء المقابلات، امتدّا على مدى سنوات، بين يونيو/حزيران 2014، و2019، لعدم إمكانية التفرّغ للعمل، ولتوزّع الناس بين بلدان عدّة".
أُنشئت "وحدة أفلام فلسطين" عام 1968. بعد "نكسة 67"، التقى هؤلاء الـ3، وكانوا من أوائل خرّيجي معهدي السينما في القاهرة ولندن، وقرّروا الانضمام إلى حركة فتح ـ حركة التحرير الوطني الفلسطيني، وأسّسوا وحدة إنتاج، أنتجت أول أفلامها عام 1969. لذلك، شهد عام 2019 ذكرى مرور 50 عاماً على أول فيلم فلسطيني ثوري، "يُعلن عن صورة الشعب الفلسطيني"، تلك الصورة التي استطاعت الحركة الصهيونية تغييبها عن المشهد الإعلامي العالمي لفترات طويلة. عام 2019 نفسه، مرّت الذكرى العاشرة لغياب مصطفى أبو علي (30 يوليو/تموز 2009).
هذه الوحدة بداية انطلاقة سينمائية فلسطينية، شارك فيها سينمائيون تقدميون من فلسطين والبلاد العربية والعالم، فتشكّلت ظاهرة سينمائية نضالية عالمية حول القضية الفلسطينية، والمؤلّفة تُثبت ذلك بذكر أسماء المخرجين والنجوم، كفانيسّا ريدغريف، وعناوين الأفلام.
تروي حباشنة عن التحاقها بحركة فتح بعد حرب 67، وكيف أنّها، أثناء التحضير لخطوبتها مع مصطفى أبو علي، أخبرته بإرسالها طلباً للانضمام إلى الحركة، فصارحها بالتحاقه بالثورة، بعد ترشيح زميلتهم في القسم سلافة جادالله، مؤكّداً أنّه سيطلب من سلافة، القريبة من قيادة الثورة، دعم طلبها. كما سهّلت جادالله التحاق هاني جوهرية بالحركة. سبب قُرب جادالله من القيادة كامنٌ في شغفها بالتصوير باكراً، ومُشاركتها في "جمعية أسر الشهداء"، وتصويرها شهداء العمليات الفدائية بكاميرتها الخاصة، وكانت تطبع الصُور في مطبخ منزلها، بأدواتها الخاصة.
بداية الوحدة منبثقة من فكرة لجادالله، بإنشاء قسم التصوير، فوافقت القيادة، والشعار: "من خلال الصورة الثابتة أو المتحرّكة، نستطيع إيصال ونشر مفاهيم الثورة إلى الجماهير، والحفاظ على استمراريتها". اقتصر العمل في البداية على توثيق صُوَر الشهداء، وأعمال خاصة بالثورة. بعد معركة الكرامة (20 ـ 21 مارس/آذار 1968) ـ التي صمد فيها الفلسطينيون أمام جنود الاحتلال الإسرائيلي، في مخيّم الكرامة في الأردن، وشهدت الثورة الفلسطينية هجوماً صحافياً عالمياً ـ "ظهرت الحاجة إلى الصُوَر الفوتوغرافية، فحصلوا على مكان للعمل، وكان مطبخ أحد المنازل التي تضمّ معظم أجهزة الثورة، وتحوّل المطبخ إلى معمل للطبع والتحميض، والتصوير أيضاً".
تناول الفصل الثاني تطوّر قسم التصوير، مع انضمام أعضاء جدد إليه، والثالث تحدّث عن انطلاق فكرة الوحدة عام 1968، مع تفكير الفرسان الـ3 في توثيق أحداث ونشاطات الثورة سينمائياً، بكاميرا مُستعارة، ومن دون خطة واضحة. أواخر عام 1969، امتلكت الوحدة كاميرا تصوير سينمائي "آريفيلكس"، وآلة تسجيل صوت، فأنتجت أول فيلمٍ تسجيلي لها، بعنوان "لا للحل السلمي". كما تضمّن الفصل نفسه حكايات الفرق السينمائية العالمية التي جاءت إلى الوحدة لصنع أفلامٍ عن الثورة الفلسطينية، ومنها وكالات أنباء، وفرق تصوير أفلام إيطالية وفرنسية وأميركية وغيرها. هؤلاء الأجانب بدأت تجذبهم صورة الفدائي/الفدائية، وحركة فتح، تحديداً بعد "معركة الكرامة".
الأحداث الدرامية تتنوّع في الكتاب. هناك سردٌ للعلاقات السينمائية النضالية بين الوحدة وسينما العالم الثالث، وتفاصيل هجرة الوحدة مع الثورة الفلسطينية إلى لبنان، فتفرّق شَمل مؤسّسيها. بعد أحداث "أيلول الأسود" (1970)، أصيبت سلافة جادالله فيها برصاصة في الرأس، فعانت شللاً نصفياً، وخرجت قوات الثورة من الأردن، ومُنع هاني جوهرية من السفر، وأرغم على الإقامة الجبرية، واستقال مصطفى أبو علي من التلفزيون الأردني، عندما تسرّبت إليه معلومة تُفيد بتعليماتٍ بفصله.
في الفصل الخامس، سردٌ لتطوّر الوحدة إلى ما عُرف لاحقاً بـ"مؤسسة السينما الفلسطينية"، ومحاولات إنتاج فيلم روائي بلغة سينمائية مختلفة، وتأسيس "جماعة السينما الفلسطينية". الفصل السادس يحتوي على ردود الفعل عقب الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان وحصار بيروت (1982)، وقبلها معركة تل الزعتر (1976)، وتفاقم الصراع. ويوثّق الفصل السابع الأفلام المفقودة من المؤسّسة، وتصحيح أفكار خاطئة عن أرشيف السينما الفلسطينية.
تختم خديجة حباشنة الفصل الأخير هذا باقتباسٍ من كتاب "للجمهور" عن سرقة الجيش الإسرائيلي كلّ ما يتعلّق بالتراث الثقافي والسياسي الفلسطيني، خاصة بعد إقرار جندي إسرائيلي، شارك في نقل الأرشيف، بهذه السرقات.