"يتركّز تميّز يوسف إدريس، في القصة القصيرة، في امتلاكه موهبة فنّ اقتناص اللحظة والخاطرة والصورة. هذا فنّ طيّع إلى أقصى الحدود. مُنَوّع، لا حَدّ لتنوّعه ولا ضفاف. استفاد إدريس من هذا كلّه، فما أرحب العالم الذي تتفتح عليه قصصه، وما أشد ثراءه وخصوبته وتنوّعه. إنّه ليس معمارياً، ولا صانعاً حاذقاً، بقدر ما هو موهوب عظيم الموهبة، له عين لاقطة، وذاكرة واعية، وقدرة هائلة على انتقاء التفاصيل، وحسّ رائق بالفكاهة الصافية في أعماله الأولى، والمريرة في الأخيرة".
هذا قولٌ للناقد المصري فاروق عبد القادر عن موهبة يوسف إدريس، استعان به عاطف بشاي في تقديم كتابه الجديد عن تشيخوف القصة القصيرة في مصر والعالم العربي، "يوسف إدريس بين السينما والأدب" ("مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، الدورة الـ22، المُقامة بين 16 و22 يونيو/ حزيران 2021). بشاي سيناريست، له أفلام ومسلسلات تلفزيونية عدّة، ما يُبشّر بإيجاد زواية جديدة للتناول، ربما تكون سينمائية، بحكم مهنته، أو تُشكِّل على الأقلّ إضافة حقيقية، بعد عشرات الدراسات الجامعية التي تناولت أعمال إدريس.
يتضمّن الكتاب فصولاً عدّة، يستهلّها المؤلّف بمقدّمة عن لقاءاته مع إدريس، الذي أعجب بمشروع تخرّجه عام 1976، المقتبس عن قصته القصيرة "لغة الآي آي". في برنامج تلفزيوني مع شفيع شلبي، أشاد إدريس بعاطف بشاي، "الذي كتب سيناريو الفيلم وحواره، وأخرجه، وأعتبره أفضل مَنْ قدّم عملاً فنياً مقتبَساً عن قصة له". لكنّ استعادة "الحرام" لهنري بركات، المُنجز عام 1965، أي قبل 11 عاماً من "لغة الآي آي"، تطرح تساؤلات: هل ما سبق يعني أنّ فيلم بشاي تفوّق على "الحرام"؟ هل يُمكن تصديق هذا؟ هل هناك وثيقة مرئية أو سمعية بصرية تؤكّد رواية المؤلّف وتصريح إدريس؟ إضافة إلى تصريح آخر لبشاي، في المقدمة نفسها: "امتدت علاقتي بالكاتب الكبير، وشعرت بسعادة طاغية وأنا أتردّد عليه في مكتبه في "الأهرام". كان كثيراً ما يستشيرني في أعماله ومقالاته". هل يُعقل أنّ يوسف إدريس، بكلّ جبروته الأدبي، وشعوره بأنّه أهمّ كاتب في مصر آنذاك، وبكل شعوره الطاووسي، كما في وصف المؤلّف؛ هل يُمكن لكاتبٍ بمثل هذه الشخصية أنْ يستشير أحد الشباب آنذاك؟
يحكي بشاي عن مشروع سيناريو مسلسل "الحرام"، الذي طلبت منه ماجدة أنْ يكتبه، والذي رفضته الرقابة. لكنّ المؤلّف، رغم ذكره أسباب الرفض الرقابي، لم يُقدّم صورة من أرشيف الرقابة تؤكّد الرفض ومبرّراته، وهذا غير صعب، لكنّه ضروري للتعامل مع اعترافه على أنّه وثيقة، لا مجرّد ذكريات أو حكايات فنية لا يُعتدّ بها.
يلي ذلك فصل، له العنوان نفسه للكتاب، يزعم فيه بشاي أنّه سيعقد مقارنة عن "الحرام" بين الرواية والفيلم. لكن الفصل المذكور يتضمّن اقتباس 7 صفحات ونصف الصفحة من دراسة أعدّتها ابنته، الباحثة والإعلامية نجلاء عاطف بشاي، فيها تحليل لمضمون الرواية. في الجزء السينمائي، يُعيد بشاي ـ من دون تقديم إضافة جديدة ـ طرح آراء النقّاد عن الفيلم (تمثيل فاتن حمامة).
يتضمّن الكتاب فصولاً عدّة، يستهلّها المؤلّف بمقدّمة عن لقاءاته مع إدريس
يُخصّص عاطف بشاي فصلاً لتحليل رواية "حادثة شرف"، والفيلم المقتبس عنها. لكنّه لا يقدّم أي تحليل للرواية، مكتفياً باختصار أهمّ المشاهد والأحداث، ووصف الشخصيات كما رسمها إدريس نفسه.
في المقابل، يبدو أنّ أهمّ جزء في الكتاب يختصّ بمعارك يوسف إدريس، التي خاضها بسبب هذا الفيلم، لأنّه ببساطة يكشف تناقض المبدع حين يُدلي بتصريحات لا يطبّقها في الواقع. صرّح إدريس، في مرحلة "الحرام"، أنّ "فنّ كتابة السيناريو يختلف عن فنّ الرواية. فالسيناريو له أدواته، ولغته وأساليبه الخاصة. إنّه فنّ قائم بذاته ولذاته، ولا يجوز للروائيّ أو القاص أنْ يتدخّل في عمل كاتب السيناريو، المأخوذ عن قصته، وعليه أنْ يحترم رؤيته المختلفة". لكنّه ناقض نفسه إزاء "حادثة شرف"، إذْ أقحم نفسه بقوّة مع البدء بتحويل الرواية إلى فيلم، كتب له السيناريو مصطفى محرم، وأخرجه شفيق شامية.
بدأت المعركة عندما قرأ إدريس السيناريو، فرفضه كلّياً، وقرّر إعادة كتابته، مُبرّراً ذلك في حوار صحافي: "أدركتُ أنْ لا أحد آخر يستطيع أنْ يُجسّد ما أريده، بالطريقة التي أريدها. القصة، كمادة مكتوبة، إذا تحوّلت كما هي إلى السينما، لنْ تصلح. لا بُدّ أولاً من أنْ تُؤلَّف لها القصة السينمائية الدرامية، ويُضاف إليها الكثير من الرموز والأحداث والمواقف. إنها في حاجة إلى كتابة جديدة، وخلق جديد. لهذا، قرّرت ألا أكتفي بمجرد الفرجة، بل أنْ أضع جهودي كلّها لإيصال وجهة نظري إلى الجمهور، في تعاون كامل مع المخرج، الذي آمن بالفكرة، واختارها من دون غيرها، ليُجسّدها للناس عن اقتناع فني وفكري". أضاف إدريس: "المشكلة الثانية (كيفية) تقديم الريف المصري: كيف نغوص في الأعماق، ولا نتوقّف عند السطح والشكل. بمعنى أنْ نقدّم شخصيات درامية باعتبارها بشراً، وباعتبار الإنسان الريفي هو الأصيل في حياتنا. واصلت الاجتماع مع المخرج والسيناريست، لكنّ السيناريو ظلّ عادياً وتقليدياً، لذا قرّرت أنْ أكتب السيناريو بنفسي".
أثناء ذلك، نشبت معارك بين إدريس ومصطفي محرم شغلت الوسط النقدي عن القيمة الفنية للفيلم. لكنّ الناقد حسن إمام عمر كتب مقالة، حاول فيها تحليل الفشل: "توفّرت إمكانيات كثيرة للفيلم، ومع ذلك لم يحقّق النجاح الذي كان متوقعاً له. ربما يكون السبب أنّ مخرجه يخرج فيلماً روائياً لأول مرة، ولم يتمكّن من التعبير كما يجب عن الرواية الواقعية، التي أرادها يوسف إدريس. وربما يكون السبب انعدام وحدة الفكر (بين) المؤلّف والمخرج".
بالأسلوب نفسه، المبتعد عن العمق والإضافة، يتوقّف عاطف بشاي أمام "قاع المدينة" و"النداهة" و"العيب" و"لا وقت للحبّ" و"مشوار" و"العسكري شبراوي" و"العسكري الأسود" و"على ورق سوليفان". ثم يختم بالأفلام القصيرة، المقتبسة عن قصص قصيرة لإدريس، مُهاجماً بقوّة "أكان لا بُدّ يا لي لي أنْ تضيئي النور" لمروان وحيد حامد، لكنْ من دون تقديم أي توضيح لهجومه، المعتمد على البلاغة اللغوية فقط.
تحويل روايات يوسف إدريس وقصصه إلى أفلام سينمائية وأعمال تلفزيونية فخّ كبير، ومغامرة محفوفة بالمخاطر، تفلّت منها قليلون، كما في "الحرام" و"لا وقت للحبّ"، لأنّ السرد عند إدريس حافل بالتفاصيل، وبعدد كبير من الشخصيات الأبطال، فلاحين وعمّالاً وعاطلين عن العمل وهامشيين وعمّال تراحيل وموظفين صغارا وفقراء. نقل هؤلاء إلى الشاشة يحتاج إلى خبرة ووعي وقدرة على التعمق من دون افتعال. كذلك، يتميّز إدريس، كما وصفه فاروق عبد القادر، بقدرته على تصوير الجماعة في حركتها، التي تتجاوز حركة الأفراد، وتشملها وتحتويها، لكنّها تكتسب منطقها "الجماعي" الخاص، والفرد واحد منها، في ضوء العلاقة القائمة بين الطرفين، حيث ينبثق معنى البطولة، وتتجدّد ملامحه".
"إذا كان يوسف إدريس فرض نفسه وظلّه الفارع على القصة القصيرة المصرية، فأصبح أعظم كتّابها، فإنّ السينما لم تعطه حقّه، بل ظلمته، قياساً إلى غيره من الأدباء الكبار، رغم أنّ إبداعاته أكثر تعبيراً عن البيئة المصرية الأصيلة". هكذا يُنهي عاطف بشاي كتابه الأحدث، الذي يُعتَبَر أحد الكتب المتواضعة عن سيّد القصة القصيرة.