تقشعر الأبدان عند مشاهدة فيديو الجندي في سلاح الجو الأميركي آرون بوشنل (25 عاماً) وهو يضرم النار بنفسه، إذ يبدأ التسجيل قائلاً: "فلسطين حرة… لن أكون جزءاً من الإبادة الجماعية"؛ وقف أمام السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأميركية واشنطن، ليصب البنزين على نفسه، ثم فجأة، تلتهمه النيران، التي يقال إنها أودت بحياته، رغم مسارعة أحدهم لإطفائه، بينما كان أحد حراس السفارة الإسرائيليّة يوجه مسدسه تجاهه.
لا يمكن أن نستعيد أمام الفيديو إلا صور التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه في عام 2011 احتجاجاً على الفقر، ورهبان التيبيت البوذيين الذين أحرق عدد منهم نفسه احتجاجاً على ممارسات الصين ضدهم، بل حتى صورة الناشط البيئي الذي أحرق نفسه عام 2022، في أحد ملاعب التنس في لندن، احتجاجاً على استهلاك الوقود الأحفوري. كلها صور لمحتجين يهددون حياتهم انتقاداً لسياسات الدول التي يخضعون لها.
الاختلاف في التسجيل الذي بثه آرون بوشنل أنه أقرب إلى فيديو سيلفي. يظهر الشاب وكأنه "إنفلونسر"، لكنه فجأة يتحول إلى ناشط سياسي. والأهم أنه جندي بزيه العسكري الكامل، يعلن موقفاً سياسياً بعكس ما تنص عليه القوانين في الولايات المتحدة التي تمنع على الجنود إبداء موقف سياسي. هنا، نحن أمام احتجاج مزدوج، إذ يتضّن مخالفة للقواعد العسكريّة، ومخالفة للدستور الذي يجرّم الانتحار، خصوصاً انتحار جنديّ، المفروض أن مهمته أن يموت لأجل وطنه، وليس احتجاجاً ضده.
الواضح أن آرون بوشنل مدرك بدقة لما يفعله. الفيديو مصمم كي ينشر، لا أخطاء فيه، وزوايا التصوير واضحة: صورة الجندي الأميركي الذي تلتهمه النيران لن تغادر الذاكرة، خصوصاً أنه على أرض أميركيّة، ما جعله يحوي ملامح من فنّ الأداء. كشف هذا الفيديو عن نوعين من السلطة؛ الأولى هي من حاول إسعافه حفاظاً على "ما تبقى" من حياته، إلا أنه فارق الحياة. والثاني، الرجل الذي لا نعلم إن كان أميركياً أو إسرائيليّاً، يوجه مسدسه ضد رجل يحترق. قوتان بشريتان، الأولى تحاول الحفاظ على الحياة، والأخرى تهددها في ذات اللحظة. وهذا الغريب واللافت، فبالنسبة لمن يحمل المسدس، ثمة رجل يحترق إلى حد الموت قد يشكل خطراً، لا نعلم على من، لكنه خطر من وجهة نظر ما.
يفتح بوشنل الباب على تساؤلات كثيرة بخصوص الجنود الأميركيين أنفسهم، ولا نقصد أولئك الذين انضموا إلى جانب جيش الاحتلال الإسرائيليّ، ولا العائدين من الخدمة في الشرق الأوسط، بل أولئك الذين حالهم كحال بوشنل، لم ينضموا إلى "الجبهة"، ولم يصابوا بمتلازمة اضطراب ما بعد الصدمة، وإنما أولئك الذين يخدمون حكومة تسلّح إسرائيل وتدعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. يشكل بوشنل نموذجاً مثالياً للفصام الذي قد يختبره أولئك الجنود؛ فصام واضطرابات تكللت بهدر الحياة نفسها احتجاجاً على مقتلة جماعيّة، ما يعني ضرورة أن تراجع الولايات المتحدة الأميركية مواقفها، تلك التي لم يعد كثير من مواطنيها يصمتون حول ما يحدث في فلسطين، إلى حد أن أحرق أحدهم نفسه.
هناك حيرة عند محاولة الحديث عن آرونن بوشنل وما فعله: هل نرثيه؟ نصمت حداداً؟ أنشير إليه بوصفه ضحية أم منتحراً؟ كلها مواقف إنسانيّة وأخلاقيّة، وهذا بالضبط ما يجعل حالة بوشنل مثيرة للتساؤل؛ إذ أخذ موقفاً سياسياً واضحاً لا جدل فيه: "لن أشارك في الإبادة الجماعيّة"، ما يعيدنا إلى تعريف الإبادة الجماعية: هي جريمة الجرائم، تمسنا جميعاً كبشر، إلى حد أن أحدهم مستعد لأن يحرق نفسه حياً في سبيل احتمال إيقافها. لكن، هل توقفت الإبادة؟ لا. هل ما أقدم عليه بوشنل لا يستحق التقدير؟ أيضاً لا. يبقى السؤال، أمام نظام سياسي متواطئ إلى الأقصى مع دولة الاحتلال الإسرائيلي: ما هو شكل الاحتجاج اللازم لإيقاف هذه الإبادة؟ لأنه من الواضح أن إحراق أحدهم نفسه احتجاجاً لن يغير شيئاً.