أثبت ستيفن سبيلبيرع (1946)، عبر "آل فايبلمان" (2022)، أنّ السينما معادلٌ موضوعي للحياة. من خلالها، تتحوّل الأحلام إلى حقيقة وسحر. كأنّه يقول، بصوت مرتفع: "الجمال الذي تفرزه الأفلام لا يُمكن لأي فنّ نقله ولا فهمه". ليس لأنّه أفضلها وأهمها، بل لأنّه قادر على اكتشاف الجمال العظيم، إضافة إلى قدرته على اكتشاف الحقائق وأسرار الأشياء. هذا المُعطى الأساسي جسّده سبيلبيرغ في جديده، ليكون تحية حارّة منه للسينما، التي شكّلت حياته، وصبغت معظم سنوات عمره بتلك الهالة من الإثارة والأضواء.
فيه، نقل جزءاً من سيرته وولعه بهذا الفن، كأنّه يجاري به "سينما باراديزو" (1988)، للإيطالي جوزيبي تورناتوري، الذي بات مع الوقت تميمة هذا الفن. لكنّ سبيلبيرغ، في "آل فايبلمان"، أقلّ حميمية من تورناتوري، فيكون أكثر فرحاً وأقلّ نوستالجيا. في المقابل، أظهر أهمية السينما بالنسبة إليه، وإلى العالم أجمع.
انعكس ذكاء سبيلبيرغ، المشارك في كتابة السيناريو، في طريقة بناء الفيلم، التي جاءت بشكل تصاعدي. أي أنّه تتبّع المرحلة الزمنية لحياة أبطاله، بدءاً من طفولة سامي فايبلمان (ماتيو زوريان فرنسيس ـ دَفورد)، حين اكتشف الفيلم في قاعة سينما لأول مرة، وحاول والده بارت (بول دانو) ووالدته ميتزي (ميشيل ويليامز) تشجيعه على خوض مغامرة المشاهدة، فتأثّر بذلك لاحقاً. هذا التأثّر نقله إلى مرحلة مهمّة في حياته. بدأ ولعه بالسينما باكراً، خاصة بعد أنْ اشترت والدته له كاميرا. بعدها، ركّز سبيلبيرغ على مرحلتي المراهقة والشباب (أدّى الدور، في هاتين المرحلتين، غابرييل لابيل)، الفترة التي انتقلت فيها العائلة، مرغمةً، إلى ولاية أريزونا، حيث الفضاء الممتدّ، الذي تعكسه الصحراء، وما تحمله من قيمتين، جمالية وفكرية.
هناك، بدأت مغامرة سامي في إخراج أفلام هاوية، مع ابتكاره حلولاً عملية في ظلّ نقص الإمكانيات. أفلامٌ أُعجبَت بها عائلته وأصدقاؤه. انتهت المغامرة بانتقال العائلة، مجدّداً، إلى كاليفورنيا، حيث تبدّلت حياة أفرادها، منذ ظهور علامات تفكّكٍ فيها، وتنمرّ يتعرّض له سامي في المدرسة. شغفه بالسينما لم ينتهِ. حارب مشاكله بالكاميرا. بفضلها، انتقم من الذين تعرّضوا له. بعد انتهاء الدراسة الثانوية، قدّم طلبات عدّة لشركات الإنتاج السينمائي، لجعل هوايته مصدر رزقه.
بين هذه المراحل الـ3، شرّح سبيلبيرغ واقع العائلة من زوايا عدّة، انطلاقاً من خيانة ميتزي لبارت. اكتشف سامي هذا في مقاطع فيديو صوّرها سابقاً، أي أعَدّ لها فيلماً كاملا، بعد تركيبه، ثم عرضه على أمه، التي كانت تتعجّب من ردّة الفعل الباردة لابنها، الذي عرف فيما بعد أنّه اكتشف هذا المعطى الخطر.
أنتج سبيلبيرغ معاني وأبعاداً تأويلية مهمة في فيلمه. منها، أنّ الفنان لا يُمكن أنْ يجمع بين الفن وحب الأسرة، لأنّه إذا أراد بلوغ شغفه والحفاظ عليه، لا بُدّ من التخلّص من التزامات العائلة ومشاكلها. هذه الفكرة أوصلها الخال بوريس (جود هيرش) إلى سامي، خاصة أنّه، هو شخصياً، التزم هذا الأمر، باختياره الترحال والتنقّل في السيرك، تابعاً شغفه، فأنكرته العائلة. سأله سامي عن مغزى "أدخل المرءُ رأسَه في فم الأسد". ردّ عليه الخال: "الشجاعة أنْ تُدخل رأسك في فم الأسد. لكنّ الفن أنْ تجعل الأسد لا يعضك". هذا المعطى الأساسي جعل سامي ينطلق في حياته، غير آبه بمشاكل والديه، خاصة أنّه يعرف جيداً أنّ أمه باتت تتبع مقولة "كلّ شيء يحدث لسبب معين". لذا، تخلّت عن زوجها وأسرتها، من أجل حبيبها بيني (سَثْ روغن)، المقرّب من العائلة.
أشار سبيلبيرغ، أيضاً، إلى مشكلة مهمّة، تعرّضت لها عائلة فايبلمان، خاصة سامي: العائلة يهودية، تعرّض أفرادٌ منها إلى مضايقات زملاء له في المدرسة، لأنّه يهودي، إضافة إلى قِصَر قامته.
في السياق نفسه للأبعاد الجمالية، العامرة بالتأويل، عكس سبيلبيرغ شغف صنع الأفلام عبر المراهق سامي. أعطاه العناصر الأساسية لتحقيق هذا الهدف، مُقنعاً المتلقّي، عبر هذا المخرج الهاوي، بجدوى وجمالية ما يقوم بصنعه. عُرضت تلك الأفلام في السياق الدرامي، مع تصوير الدهشة الأولى عبر المشاركين فيها، ونقلها إلى المشاهد الأساسي، الذي يعكسه جمهور سبيلبيرغ، منتج أفلامٍ عدّة في فيلمٍ واحد. شُكّلت هذه المعطيات وفقاً لتراتبية منطقية، انطلاقاً من الوسائل التي غطّت تلك المرحلة الزمنية، أي الشرط التاريخي والموضوعي، وقرّبنا من الآلات المستعملة ليُشعرنا بحنين إلى ذاك الزمن، الذي شَهِد بدايات صنع السينما. إنّه زمن المخرج نفسه.
تجلّت خبرة ستيفن سبيلبيرغ، في هذا الفيلم ـ الذي افتتح الدورة الـ44 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" ـ بشكل واضح جداً، بفضل توزيع فصوله والتحكّم فيها. في كلّ فصل، حافظ على التوازن والتشويق، وأوجد قصصاً ثانوية، ساندت الموضوع الرئيسي. أعطى للفصل القيمة نفسها التي أعطاها للفيلم. قلّص الزمن الدرامي، ووسّع الأحداث ورَاكَمَها، وهذا صنع سلاسة، وألغى رتابة متوقّعة وغير مستحَبّة، كان يُمكنها قَطع سلسلةِ المُشاهدة، وخلق تباعدٍ من المُتلقي. انطلاقاً من هذه الخبرة، تمّ تجاوز هذه المعضلة، في هذا الفيلم، كما في أفلامٍ أخرى له.
اختار ممثلون/ممثلات لا ينتمون إلى الصف الأول، واستخرج منهم طاقات تمثيلية رهيبة، خدمت الفيلم، وساهمت في توليد المعنى الذي أراده، خاصة ميشيل ويليامز، مؤدّية ميتزي، الشخصية المركّبة والمعقّدة، التي يصعب فهمها، لأنّها أمّ متفهّمة ومتسلّطة وحنونة وطائشة وداعمة، كما تحمل صفات مركّبة أخرى. استطاعت ويليامز تأدية هذا كلّه، في البُعدين النفسي والشكلي، ما يعكس حُسن إدارة الممثلين من سبيلبيرغ، الذي أخرج الطاقة الكامنة فيها وفيهم.
كما جعل الشخصية وقوداً لزرع حبّ السينما في سامي، إذْ دعمته في كلّ خطوة من حياته، كأنْ تقول له: "الأفلام أحلام لا تنساها أبداً"، وأسدت له نصائح يمكنه الاستناد إليها في حياته، كقولها: "الشعور بالذنب عاطفة ضائعة". شجّعته ليكون مستقّلاً في حياته: "عليك أنْ تفعل ما يُمليه عليك قلبك، لأنّك لستَ مديناً لأحد، ولا حتّى أنا". هذه الشخصية مصدر قوة، عكست تفاصيلَها ويليامز، بكلّ اقتدار ومحبة.
"آل فايبلمان"،المرشّح لـ7 جوائز "أوسكار" (تُعلن نتائجها النهائية في 13 مارس/آذار 2023)، وثيقة سينمائية مهمّة، وتشجيع جمالي من ستيفن سبيلبيرغ على حبّ هذا الفن واحترامه. الفيلم، بحسب طرح المخرج دائماً، وسيلة تفكير وجمال، أكثر منه أداة ترفيه وتسلية؛ ومسار حياة وتجارب، أكثر منه لحظة ترف.