بعد انتظار دام أكثر من عقد، أخرج جيمس كاميرون أخيراً "أفاتار 2: نهج الماء"، الجزء الثاني من الـ"ساغا" التي خلخل جزؤها الأول مفاهيم أفلام الخيال العلمي والفانتازيا، نهاية العقد الأول من الألفية الحالية. يعود المخرج الكندي ـ عشية بلوغه 70 عاماً (مواليد 1954)، بالطموح نفسه المؤثّر بعظمته المبالغ فيها ـ ليس فقط ليدفع بحدود التخييل والتجديد التقني والجمالي في السينما إلى مدى أبعد، كعادته، بل ليحمل على عاتقه همّ المساهمة الفاعلة في إرجاع الجمهور الواسع إلى الصالات، على خطى "توب غان مافريك" (2022) لجوزف كوسينسكي، وسط رياحٍ تجارية غير ملائمة، وسياق فني صعبٍ، تسوده أفلام الـ"بلاكباستر" المنمّطة على قوالب الأبطال الخارقين، والمتشابهة جُلّها في التجرّد من أي طموح فني، أو روح تفرّد.
تفرّدٌ، نتلمّس أبعاده المتعدّدة أولاً في مدة الفيلم، التي تبلغ أكثر من 3 ساعات، غير ملتزمةٍ بإملاءات الاستغلال التجاري الصرف، وضرورة الاقتصار على مدة لا تتجاوز ساعتين ونصف الساعة، للحصول على أكبر عدد من العروض اليومية. اختيار فاصلٌ، كونه يُمكّن المخرج من أخذ وقته في مَشاهد تأمّل طويلة، تُشكّل العمود الفقري لطرحه الجمالي، ما يمنح المُشاهد، زيادةً على توابل الإثارة والحركة الضروريين لأيّ "بلاكباستر"، تجربةً حسّية وروحية، قلّما تجود بها السينما.
بعد استقرار جايك سالّي (سام ورذينتن)، المبعوث السابق لـ"إدارة تطوير الموارد الأرضية" لدراسة شعب "نافي"، في كوكب باندورا، زهاء 15 سنة، مُرتبطاً بنايتيري (زوي سالدانا)، ومُنجباً منها 3 أطفال، تضطرب الحياة الهادئة والمستقرّة التي تعيشها قبيلة "أوماتيكايا"، بهجوم جديد من القوات العسكرية الأرضية، الباحثة عن تصفية زعيم المقاومة الباندورية، جايك سالّي، ما يجبر عائلته على اللجوء إلى قبيلة "ميتكايينا"، المُقيمة قرب جرف بحري. هكذا، يُعاد الوصل مع بانوراما الجبال المعلّقة، والأدغال المشعّة بيولوجياً، الحاضرة في الجزء الأول، إضافة إلى منظومة بيئية تحت مائية، غنيّة بتنوّع تضاريسها، والسحر الخلاّق لكائناتها، إلى حدٍّ يقطع الأنفاس.
رغم النجاح الباهر في تصويره الفني، تصميماً ورسومياً، فإنّ "أفاتار 2" ليس فيلم تحريك. ذلك أنّ الأزياء والأكسسوارات كلّها تمّ ابتكارها بشكل ملموس، بينما اعتُمِد على تقنية لاقط حركة البدلاء لإخراج مشاهد الأكشن، والتقاط الملامح "برفورمنس كابتشر" للقبض على أداء الممثلين، ما أعطى تعابير مغرقة في الصدق، لعلّ أبرزها تحلّل ملامح زوي سالدانا في لحظات البكاء، ثم شكل محيّاها المرعب في فورة الاستشاطة غيظاً، أو تعابير وجه الكبيرة سيغورني ويفر، الفائضة تمزّقاً وحيرة، في دور الشابة كيري (أصدق شخصيات الفيلم، وأكثرها رهافةً)، التي تعاني اضطراباً وتمزّقاً دائمين، بسبب إحساسها الروحاني المفرط بحضور روح والدتها، العالمة غريس أوغيستين، التي سقطت صريعةً، نتيجة الغزو البشري في الجزء الأول.
أفلامٌ قليلةٌ يُمكن أنْ تضاهي "أفاتار 2" في ما يقدّمه من عرض شامل، وفرجة قوامها تجربة انغماس فريدة، من دون أنْ تغيب فيه مشاهد، تنقبض لها القلوب تأثّراً بفعل الفيض المتنوّع من المشاعر، التي تحرّكه في المُشاهِد. لم يكن جيمس كاميرون يوماً من فئة المخرجين الذين يراهنون على جدّة الحبكة، أو أصالة الحكي. لكنّه ينتهي بلمس الأوتار الحسّاسة نفسها، التي تحرّكها الأعمال المتميّزة على هذه الأصعدة، من دون أنْ يتخلّى عن طموحه في التوجّه إلى الجمهور العريض. توفيقٌ شبه معجزٍ بين نقيضين، ربما يدين به إلى "خيميا" يملك سرّها، ويخلط فيها سحر الأجواء بابتكار هندسة الفضاءات، إضافة إلى شخصيات هشّة، لا تخطئ طريقها إلى القلوب، وتسعى جاهدةً إلى الفرار من ماضٍ يقضّها، فقط لتلفي نفسها وجهاً لوجه معه، مُجسّداً في عدوّ (نمسيس) مجرّد من الأحاسيس، في نسقٍ ظاهره مشاهد حركة (لا تخلو من تحكّمٍ وإبداع في الكوريغرافيا والإخراج)، لكنّ باطنه طرحٌ إنساني يجد هنا مرتكزاً له في التفوّق على الذات، وقيم الالتحام العائلي، ونبذ النعرات العرقية.
ينطوي الفيلم أيضاً على مانيفستو إيكولوجي، يُكمل خطاب الجزء الأول، الرافض لنزعة الاحتلال التدميري (أنثروبوسين)، عبر إدانة ضمنية للصيد المفرط للحيتان، عبر مشهد طويل، تنفرط له القلوب، يتتبع التفاصيل والخطوات المذهلة في لاإنسانيتها، المُتّبعة في صيد كائن "تولكون" الذكي، من أجل سائل "أماريتا"، لا يتجاوز حجمه قارورة صغيرة، لكنّ قيمته المادية هائلة لكونه يطيل أمد الحياة، ما يفتح أفق القراءة على ثيمة "ما بعد الإنسانية" (ترانسهيومانيزم)، المطروحة بقوة في النقاش عن مستقبل الإنسانية.
لا يمكن أنْ تغفل عينُ المشاهد الحصيف المتوازيةَ الرائعة، التي يخلقها السيناريو، بين رفض جزء من أهالي "ميتكايينا" استقبال عائلة جايك سالّي، والأزمات الناجمة عن رفض اللاجئين، واستفحال العنصرية ضدّهم في عالم اليوم، التي لا تنفكّ تزداد استفحالاً، بخاصة مع وصول الأيديولوجيات اليمينية، المتوقّعة على الهويات الضيقة، إلى سدّة السلطة في دول عدّة.
يشتغل سيناريو الفيلم، كذلك، كنوعٍ من مصفوفةٍ، تجمع لوازم متعدّدة من أفلام سابقة لكاميرون: سحر الغوص واكتشاف أعماق المحيطات في "الهاوية" (1989)، التي صارت أحد انشغالاته الأساسية، مُكرّساً لها بعثات علمية ووثائقيات؛ لازمة عودة الـ"نمسيس" في شكل منقذ، الحاضرة في "ترميناتور 2"، بشكل معكوس هنا، مع شخصية الكولونيل مايلز كواريتش (ستيفن لانغ).
إلى جانب الرغبة في الذهاب إلى ما بعد عبارة "ثمّ تزوّجا وأنجبا أطفالاً كثيرين"، التي تختم القصص، بتتبع ما حدث بعد استقرار جايك سالّي في وسط عائلي، بالضبط كما سعى سيناريو "أكاذيب حقيقية" (1994) إلى تقديم قراءة ساخرة لأسطورة العميل جيمس بوند، المثير للنساء، بتصوره في ثوب أبٍ رفقة زوجته وأطفاله.
بعد رفضه استعمال تقنية "وت فور دراي" (مُبتلّ ظاهراً وجاف فعلاً)، التي تقتضي ربط الممثلين بأسلاك لإعطاء الانطباع بعومهم في المياه ـ بمساعدة صُور منتَجَة عبر الحاسوب، تنزع المصداقية عن المَشاهد ـ قرّر كاميرون أنْ يُصوّر في مسابح كبرى، مُجهّزة بعشرات الكاميرات الرقمية، وهذا مُكلّف في الزمن والمال. لكنّ قراره حاسم، لإضفاء واقعية مفرطة على الأجواء في المحيط، بخاصة حين انضافت إلى تأثيره تقنية التقاط 48 صورة في الثانية، ثم الأبعاد الثلاثية، التي حرص على أنْ تمنح الأسبقية لعمق الصورة، بدل نزعة البحث عن اجتياح مساحة المشاهد، واقتحام خلوته.
نجح جيمس كاميرون، مرّة أخرى، في دفع حدود السينما إلى آفاق أبعد وأكثر شساعةً، على أمل أنْ يُعيد جمهوراً أكبر إلى الصالات المظلمة، بعد أنْ هجرها نسبياً إثر الهزّات التي شكّلتها موجات كوفيد 19 المتوالية، ووقع عروض المشاهدات المنزلية العميق على العادات. رغم عدم استجابة الجمهور الصيني، بسبب المخاوف من انتشار موجة جديدة من كورونا، وتأثير العواصف الثلجية السلبي على إقبال الأميركيين، تُشجّع مبيعات الفيلم الجيّدة نسبياً في شباك التذاكر العالمي، بعد تجاوزه مليار دولار أميركي كمداخيل (مليار و558 مليوناً و195 ألفاً و379 دولارا أميركيا (بوكس أوفيس موجو) ـ فيما يلزمه ضعف ذلك ليحقّق أرباحاً، بحسب تقديرات "ديزني" ـ على المضي في إنتاج جزءٍ رابعٍ من الساغا، بعد أنْ أُعلن عن إطلاق الجزء الثالث (صُوّر مع الجزء الثاني دفعةً واحدة، لكنْ بحبكة مستقلّة، وإضافة فضاءات وشخصيات جديدة)، في ديسمبر/كانون الأول 2024.