عوامل كثيرة أجّجت ترقّب وانتظار "أوبنهايمر" (2023)، الفيلم الـ11 لكريستوفر نولان، منها التلقّي الفاتر، نسبياً، الذي عرفه فيلمه السابق "تينيت" (2020)، المُنقسَم حوله، إذْ رأى فيه كثيرون استنفاداً لنزعته المفاهيمية في الكتابة، ما يجعل جديده مُنعطفاً حاسماً في مساره، بنحو ما؛ والخلافات مع "وارنر برذارز" حول استراتيجية إطلاق الفيلم نفسه وتسويقه، التي وضعت حدّاً لعقدين من التعاون بين الطرفين، ودفعت نولان إلى تدشين تجربة جديدة مع "يونيفرسال".
أُطلقت العروض التجارية لـ"أوبنهايمر" في اليوم نفسه، 21 يوليو/تموز 2023، مع إطلاق العروض التجارية لـ"باربي" (2023) لغريتا غِرويغ، إنتاج "وارنر براذرز" (كم أنّ العالم صغير)، وهذا أشعل فتيل ظاهرة تفاعل غير مسبوقة من الناشطين في شبكات التواصل مع الطابع المتناقض لأجواء الفيلمين وثيمتيهما، أُطلق عليها "باربنهايمر"، فجنى الفيلمان بفضلها إقبالاً كبيراً في الصالات.
الإنسان محصّلة اختياراته في الحياة، خاصة عندما يتعلّق الأمر بشخصٍ من طينة روبرت أوبنهايمر، "أب القنبلة الذرية"، الذي عاش حياة عامرة بالصراعات، نتيجة إشرافه على مشروع تطوير أول سلاح نووي في تاريخ البشرية، مهّد لحدث إلقاء قنبلتين ذرّيتين على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين. سلاح لم يحسم فقط مآل آخر حرب عالمية (إلى اليوم)، بل دشّن عالماً جديداً، كما عبّر نيلز بور، عالم الفيزياء والمثال الأعلى لأوبنهايمر في فترة دراسته في جامعة كامبريدج، كما يرد في مقدّمة سيناريو نولان، المقتبس عن كتاب سيرة بعنوان "بروميثيوس الأميركي: نصر ومأساة روبرت ج. أوبنهايمر"، لكاي بيرد ومارتن جاي شيروين.
مرتكزاً على أداءٍ، مؤثّر باقتصاده، لكيليان مورفي، يُعبّر نولان عن القلق الذي يساور أوبنهايمر الشاب بصُور ذهنية قاضّة، تضطرم في رأسه على شكل جسيّمات وأوتار تحاكي البنية الذرية المضطربة وغير المتوقّعة للكون، كما تصفها معادلات ميكانيكا الكَمّ. هذا موضوع الخلاف الجذري مع معسكر النظرية النسبية، بقيادة ألبرت أينشتاين، وعبارته الشهيرة: "الإله لا يلعب النرد". الغموض والشكّ، الكامنان في ميكانيكا الكَمّ ونظرياتها القائمة على الاحتمالات، يقعان في قلب التصوّر الفني للفيلم، حين يرافقان أوبنهايمر طوال حياته، في صورة تساؤلات عن نتائج اختياراته ومسؤوليته الأخلاقية، ويشكّلان وقود إيقاعٍ مشدود يخفّف، بتأثير النسبية الفنية لإدراك الزمن، من وطأة الساعات الـ3 التي يستغرقها هذا العمل الملحمي.
كما في بنية الحكي الأسطوري، التي صاغها جوزيف كامبل، يغادر "البطل" موطنه بحثاً عن آفاق أوسع، لطلب العلم في أوروبا، بعيداً عن ازدراء أميركا لميكانيكا الكَمّ. تتزامن عودته، بقدرية مذهلة، مع اندلاع الحرب، ورغبة السلطات الأميركية في استدراك تأخّرها عن المشروع الألماني لتطوير سلاح نووي، ثمّ تفشّي معاداة السامية في القارة العجوز، التي تؤدّي إلى فرار ألمع عقول الفيزياء إلى "العالم الجديد"، ليخلق كلّ ذلك شروط تحقّق الحلم الذي راود أوبنهايمر منذ طفولته: دمج ولعه بالفيزياء مع حبّه لنيو مكسيكو، من خلال توطين مشروع "منهاتن" لخلق قنبلة ذرية أميركية في لوس ألاموس.
هناك تقاطعات لافتة للانتباه بين المدينة - المختبر، الناشئة وسط الصحاري، ومعسكرات اعتقال اليهود (الحراسة المشدّدة، الأسلاك الشائكة، الشارات المرقّمة على صدور العلماء، أعمدة النار المترتبة عن التجارب، من دون نسيان الاتفاق على تلطيف تسمية القنبلة بـ"غادجيت"، الذي يذكّر بمفردة "الحَلّ")، تحيل كلّها إلى فكرة أنّ المرء يغدو، لا إرادياً، صورة مشابهة لما يحاربه، على نحو ما.
يستثمر نولان هذه الأجواء ليُحيد، اقتداءً بمثله الأعلى ستانلي كوبريك، عن فيلم السيرة كما يُعرف كلاسيكياً، مُستعيناً بمفاتيح أنواع أخرى، كفيلم الحرب، عبر التنظيم الصارم وتجاذب مراكز القرار والسلطة مع العسكريين، بقيادة الجنرال ليسلي غروفز (مات ديمون)، وفيلم الجواسيس، عندما تحوم شكوك حول ماضي أوبنهايمر، وتأثّره بالأفكار الشيوعية، فتُراقب اتصالاته وتحرّكاته للقاء عشيقته جين تاتلوك (فلورنس بيو)، قبل انحرافه، في الساعة الأخيرة، إلى فيلمِ محاكمة ماكارثيّة صريح، بالأسود والأبيض، يقبع فيه أوبنهايمر في زاوية غرفة صغيرة، معرَّضاً لاتّهاماتٍ، وفق محكمة خادعة، هدفها إخراس صوته المناوئ لتطوير القنبلة الهيدروجينية، بإلقاء ظلال الشكّ على مساره، ومدى ولائه للولايات المتّحدة، مع حرمانه الولوج إلى أي منبر ربما يستغلّه لتلميع صورته.
تتخلّل مسار الحكي الرئيسي (تطوير القنبلة) مقاطع أخرى بالأسود والأبيض، لعب فيها رئيس "هيئة الطاقة الذرية الأميركية" لويس ستراوس (أداء لافت للانتباه، باتّساع طيفه الدرامي، لروبرت داوني جونيور) دوراً محورياً ومتعدّد القراءات، وشكّلت حاملاً إضافياً لنزعة السرد المبعثر زمنياً، التي بَصَمت جُلّ الأفلام السابقة لنولان، ملقية هنا طابعاً تراجيدياً على إدراك المشاهد مآل اختيارات أوبنهايمر في مضارع الحكي.
تنقسم شخصيات الفيلم، التي يؤدّيها ممثّلون كبار، حتى في الأدوار الصغيرة، إلى 3 مجموعات: العلماء، بشخصياتهم المهزوزة وشغفهم الطفولي بالعلم والابتكار؛ والعسكريون المتّسمون بالشهامة في العمق، رغم عدم مساواتهم، واحتداد طباعهم؛ ثمّ السياسيون، الذين لا يتوانون عن تشويه الحقائق، وتوجيه الضربات تحت الحزام. وبقدر ما توفّق أوبنهايمر في قيادة زملائه العلماء، بإذكاء التنافس تارة، وتحكيم خلافات الـ"إيغو" الناشبة بينهم تارة أخرى، وتمكّن نسبياً من الإفلات من مكائد العسكريين (مشهد استجوابه من بوريس باش، والنظرات الرهيبة لكايسي آفلِك في دور الضابط الأميركي من أصل روسي)؛ رغم هذا، سقط ضحية خبث السياسيين وكلبيّتهم، التي بلغت أوجّها في مشهد اللقاء بالرئيس هاري ترومان (غاري أولدمان المُقنع كالعادة)، الذي يمدّ أوبنهايمر، ببرود، بمنديل أبيض، ردّاً على شعوره بـ "أنّ يديه ملطّختان بدماء الضحايا"، فيخرج من مكتبه مترنّحاً ومهدود الحيل.
يصعب إنجاز فيلم مدّته 3 ساعات، من دون أنْ يكون متفاوتاً في قوّته. فبينما اتّسمت فتراتٌ (انتحار جين تاتلوك مثلاً) بصُور توضيحية لا تفسح مجالاً لخيال المُشاهد، أمعنت أخرى في إطنابٍ مُخلّ بالإيقاع. لكنّ هذا لم يضرّ كثيراً بتماسك الكلّ. مقطعٌ واحدٌ طويل (أكثر من نصف ساعة)، لم تخترقه لقطات المحاكمة، يجسد المشهد الفاصل لتجربة القنبلة، التي أطلق عليها "ترينيتي" (إشارة أخرى إلى الرقم 3)، برع نولان في جعله لحظة تشويق وترقّب (رغم أنّ غالبية المشاهدين تعلم مآلها الناجح)، بربطها بأجلٍ مُحدّد ينبغي احترامه، رغم الأحوال السيئة للطقس، مُعتمداً على مقطع موسيقي يقطع الأنفاس، بنوتات حادّة من الكمان، أبدع فيها لودفيغ يورانسون، بالموازاة مع مونتاج خلّاق للصّاعدة جينيفر ليم، يرصد الترقّب على الوجوه، مع توالي العدّ العكسي، قبل أنْ تحلّ لحظة الصفر، التي اختار أنْ يوردها في صمت مطبق، فيلتقط امتزاج الافتتان بمشهد الفطر النووي، بشعور الرهبة من انفلات مارد الدمار من قمقمه.
يخلص "أوبنهايمر"، كـ"المواطن كين" (1941) لأورسون ويلز (لا يخفي نولان تأثّره بسرده المبعثر، وتدبير مراكمة الشهادات ووجهات النظر)، إلى أنّ حقيقة الإنسان أعقد من أنْ تُستجلى كلّياً، وترتبط ربما بتفصيل صغير (أو "روزبد")، لعلّ ما يوازيه هنا لحظة اللقاء الرائعة مع ألبرت أينشتاين أمام بركة خلابة، وسط حديقة "معهد الدراسات المتقدّمة" في برينستون، ترد في بداية الفيلم، لكننا لا نكتشف كنهها إلا في المشهد الختامي. كنهٌ دالٌّ، كونه يلتقط معضلة رجل صنع قنبلة توازي، في تأثيرها، استدعاء لحظة خاطفة من الجحيم، والطريق إلى جهنّم كما يُقال مفروشٌ بالنوايا الحسنة.
لا حاجة إلى عمليات حسابية مُعقّدة لفهم أنّ العالم دُمّر فعلاً، بطريقة أو بأخرى، بمجرّد أنّ شيئاً (أو "غادجيت") بهذه اللا آدمية خرج إلى الوجود، ما يفتح نهاية الفيلم على أعمال أخرى تناولت هذا الموضوع، بمنظور هشاشة ضمانات التحكم في عدم استعمال السلاح النووي، كـ"دكتور فولامور" (1964) لكوبريك، الذي ربطه بحماقة الإنسان في كلّ تجلياتها، وساغا "ترمينايتور" التي ابتكرها جيمس كاميرون عام 1984، منجزاً أول فيلمين منها (6 أفلام إلى الآن)، التي قاربته انطلاقاً من نزعة التدمير الذاتي الكامنة في الإنسان، وكلّ ما يخلقه من آلات وبرامج ذكاء اصطناعي.