في إطار المراحل الأخيرة لإزالة كل ما يتعلق بإرث المرحلتين الشيوعية والإمبراطورية الروسية، بدأ العمل في العاصمة الأوكرانية كييف على تفكيك شعار الاتحاد السوفييتي عن تمثال الوطن الأم الذي يشرف على كييف، من إحدى التلال الواقعة على الضفة اليمنى لنهر دنيبر، على ارتفاع 102 متر، ويعدّ أعلى تمثال من نوعه في القارة الأوروبية.
ويبدو أن الحرب الروسية على أوكرانيا أنهت جميع التحفظات السابقة على إزالة آثار المرحلة السوفييتية، فالحرب "بين الأشقاء" التي اتخذت شكل هجوم شامل قبل نحو عام ونصف كانت كفيلة بإقناع مزيد من الأوكرانيين بأنه لم يعدّ هناك داعٍ للتذكير بالقضية المشتركة التي مات من أجلها ملايين الأوكرانيين والروس في الحرب العالمية الثانية، وهو الهدف الذي شيد من أجله التمثال الضخم، وافتُتِح في 9 مايو/ أيار 1981 تزامناً مع ذكرى النصر على النازية.
وصنع "الوطن الأم" من معدن التيتانيوم شديد الصلابة، بطولٍ بلغ 102 متر، ما جعله أعلى من تمثال الحرية في نيويورك (93 متراً)، ونصب "المسيح الفادي" في ريو دي جانيرو (38 متراً). وقد صمم التمثال وأشرف على إنجازه النحات السوفييتي الشهير يفغيني فوتشيتش. يجسد التمثال امرأة أوكرانية ترفع بيدها اليمنى سيفاً بارتفاع 16 متراً، وتحمل في يدها اليسرى درعاً يزينه شعار المطرقة والمنجل السوفييتي.
ونشرت وزارة الثقافة الأوكرانية في صفحتها على "فيسبوك"، الأحد الماضي، صوراً لبدء تفكيك الشعار السوفييتي عن الدرع. وأوضحت الوزارة أن شعار النبالة الأوكراني وهو "الرمح الثلاثي"، وكان شعاراً للدولة الأوكرانية في الحقبة قبل السوفييتية، سيحل مكان المنجل والمطرقة، وسيكون جاهزاً بحلول 24 أغسطس/ آب الحالي، تزامناً مع احتفالات الذكرى الـ32 لإعلان استقلال البلاد.
وأوضح النحات الأوكراني أليكسي بيرغامتشينكو الذي عمل على إنشاء الشعار الجديد، أن وزنه يبلغ 400 كلغ، وهو الوزن نفسه للشعار السوفييتي السابق. وأشار النحات في لقاء مع موقع "أوكراين إينفورم" إلى صعوبة إزالة المنجل والمطرقة عن الدرع واستبداله بشعار الرمح الثلاثي للشعب الأوكراني، نظراً إلى ضرورة العمل على ارتفاعات عالية والحاجة إلى سقالات خاصة، من الألمنيوم القوي والخفيف حتى لا تشكل وزناً إضافياً على ذراع التمثال التي تحمل الدرع.
طُرحت فكرة استبدال الشعار السوفييتي عام 2015 كجزء من حملة مكثفة لإزالة الإرث السوفييتي، بعد ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم في 2014 ودعم الانفصاليين في دونباس. وتأجل تنفيذ الفكرة لسنوات بسبب الكلفة العالية، ومخاوف من أن عملية إزالة الرموز السوفييتية وإحلال رمز أوكرانيا يمكن أن يُضرّ باستقرار التمثال. وفي 13 يوليو/ تموز الماضي، وافقت مفتشية الدولة للهندسة المعمارية والتخطيط الحضري في أوكرانيا على تفكيك الشعار السوفييتي. وحسب تقديرات وزارة الثقافة تبلغ الكلفة الإجمالية لعملية نزع الشعار القديم وتصميم ووضع الشعار الجديد قرابة 28 مليون هريفني (قرابة 765 ألف دولار أميركي).
يتوسط التمثال المتحف الوطني لتاريخ أوكرانيا في الحرب العالمية الثانية، وقال المدير العام لمجلس أمناء المتحف يوري سافتشوك، السبت الماضي، إنّ اسم نصب "الوطن الأم" سيُغيَّر إلى "أوكرانيا الأم"، مشيراً إلى أن هذا النصب التذكاري بات بعد الغزو الروسي الشامل لشعب كييف، وللأوكرانيين فقط، ويرمز إلى المحاربين في وجه الأعداء، ويرمز إلى صلابة الشعب الأوكراني. وطالب سافتشوك وزارة الثقافة والسلطات الأوكرانية بإعادة تسمية المتحف وتوسيع وظائفه، ضمن الوقائع الجديدة، ليشمل أيضاً نضال الأوكرانيين في الدفاع عن أرضهم في الحرب الأخيرة.
صيف عام 2022، أجرت الحكومة الأوكرانية استطلاعاً عبر الإنترنت على المنصة الرقمية الحكومية Diya، حول ما يجب فعله بالنصب التذكاري، واستمر التصويت من 7 إلى 21 يوليو 2022، وعرض على الأوكرانيين اختيار إحدى الإجابات: إبقاء التمثال على ما هو عليه، أو إزالة شعار الاتحاد السوفييتي، أو استبداله بشعار "الرمح الثلاثي للشعب". وشارك في الاستطلاع قرابة 780 ألف شخص، ودعم 85 في المائة منهم وضع الرمح الثلاثي.
وتعليقاً على قرار بدء عمليات إزالة الشعار السابق ووضع شعار أوكرانيا، قال وزير الثقافة الأوكراني أولكسندر تكاتشينكو الخميس الماضي: "نحن نعمل مع تمثال فريد من نوعه يمثل الجيل الأكبر سناً الذي يقبل الواقع الجديد بكل قلبه الصلب ويساهم في النضال من أجل حريتنا واستقلالنا".
ومنتصف إبريل/ نيسان من الماضي، اعتمد البرلمان الأوكراني قانوناً يحظر بموجبه الرموز والأسماء الجغرافية المرتبطة بالسياسة الإمبراطورية الروسية، بما في ذلك الرموز الرسمية لروسيا (من حقبة إمارة موسكو إلى روسيا الحديثة) في أوكرانيا. وكشفت شركة Metalurgical Metinvest، المملوكة من الملياردير الأوكراني وقطب التعدين المعروف رينات أخمدوف، أنها ستصنع الشعار الجديد على الدرع، وأوضحت أنه سيتكون من الفولاذ الذي ينتجه مصنع "زوبوروجيا ستال" الذي أنتج عام 1981 مادة التمثال بأكمله.
ساهمت الحرب الروسية على أوكرانيا في تسريع التخلص من جميع آثار الحقب السابقة التي تجمع بين روسيا وأوكرانيا. وشهدت أوكرانيا منذ استقلالها عدة موجات لإزالة ومحو إرث الحقب السابقة، وانطلقت الموجة الأولى مباشرة بعد استقلال البلاد عن الاتحاد السوفييتي بداية تسعينيات القرن الماضي، وهي حملة عفوية لم تقتصر على أوكرانيا، بل شملت روسيا وجميع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق. وشملت الموجة الأولى تعديل أسماء الشوارع والمدارس والجامعات والمدن والقرى التي كانت تحمل أسماء القادة السوفييت، وتركزت معظم التغييرات في مناطق غرب أوكرانيا ووسطها.
وأطلق ضمّ القرم عام 2014 موجة ثانية للتخلص من كل الآثار السوفييتية في جميع أنحاء أوكرانيا، بعدما تبنى البرلمان الأوكراني أربعة قوانين بشأن "إلغاء رموز الشيوعية"، وأطلق على الحملة عنوان "انهيار لينين"، وتغيرت بمقتضاها حتى عام 2020 أسماء 25 مدينة و987 قرية وتجمعاً سكنياً، وأكثر من 50 ألف شارع، واستبدلت أيضاً أسماء 2389 معلماً أثرياً من ضمنها 1320 معلماً كانت تحمل اسم لينين.
وحملت الموجة الثالثة التي انطلقت مع الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022 بعنوان "إزالة الترويس" (من روسيا)، وتضمنت تغيير الأسماء المرتبطة بروسيا التي لم تتأثر بالموجتين السابقتين، وضمنها بدأت حملة تستهدف تغيير أسماء كل المرافق والشوارع وإزالة تماثيل تخصّ الشاعر ألكسندر بوشكين ورائد الفضاء يوري غاغارين. وفي ظل اشتداد القصف على أوديسا في الشهر الأخير، علت أصوات تطالب بإزالة تماثيل الإمبراطورة كاتيرينا الثانية من المدينة وجميع القادة العسكريين الذين حاربوا معها، وتغيير أسماء الساحات والشوارع التي تحمل اسمها.