استمع إلى الملخص
- يافا كمركز فني جذب نجومًا عربًا كبارًا وشهدت تعزيز الاهتمام الفني بفضل المدارس المسيحية التبشيرية وإذاعة القدس في 1936، مما ساهم في ازدهار الموسيقى.
- بعد النكبة 1948، انتشر الموسيقيون الفلسطينيون في البلدان العربية، مواصلين تأثيرهم الفني ومساهمين في الحركة الموسيقية العربية وتبادل الثقافات الفنية بين فلسطين والعالم العربي.
رغم قلة المعلومات المتوفرة عن الحياة الموسيقية في فلسطين خلال النصف الأول من القرن العشرين، أي حقبة ما قبل النكبة (1948)، إلا أن المتاح يفيد بأن نهضة موسيقية انطلقت مبكراً في ظل الحكم العثماني، من ثم ازدهرت تحت سلطة الاستعمار البريطاني. هذه النهضة عكسها انصراف المجتمع الفلسطيني وقتها إلى مختلف ألوان الغناء، لتزدهر وتتعدد الأسماء الفلسطينية المتميزة في هذا المجال، ومنها من ساهم، لاحقاً، في ما شهدته بلاد عربية أخرى من حداثة موسيقية.
جاء أول توثيق لفعالية غنائية في فلسطين عام 1908، عبر إعلان عن برنامج غنائي لفرقة داود بقهوة مصطفى رابية عند باب الخليل. كمثيلاتها من المدن العربية الكبرى في ذلك الزمن، كانت مقاهي القدس مسرحاً لإقامة الفعاليات الفنية، من سهرات غنائية وعروض مسرحية، وظلت المقاهي زمناً هي مقصد الجمهور للاستمتاع بتلك الفنون، لتزدهر وتتزايد فعالياتها.
إلى جانب ذلك، كانت فلسطين مقصداً لكبار النجوم المصريين والسوريين، فزارها المطرب الشهير زكي مراد عام 1923، وقصدها عبد الوهاب في عام 1932 ليحيي حفلته الأولى في يافا، بينما أقامت أم كلثوم حفلاً في نفس المدينة في عام 1935، وأحيت أسمهان وفريد الأطرش العديد من الليالي في يافا، كذلك المغنية السورية سهام رفقي التي تعددت حفلاتها بالمدينة الفلسطينية.
كانت يافا في تلك الحقبة مركزاً فنياً وثقافياً اجتذب إليه كثير من وجوه الغناء في العالم العربي، ومنهم من صنع شهرته انطلاقا منها، مثل: محمد عبد المطلب، الذي لم تلق حفلاته الأولى في مصر أي نجاح، فانتقل إلى يافا والقدس ليحصد من خلال حفلاته وتسجيلاته هناك نجاحا كبيراً.
جاءت هذه الفترة إرهاصاً لدور رئيسي لعبته المدارس المسيحية التبشيرية في تعليم الموسيقى وكتابة النوتة أواخر القرن التاسع عشر، إذ اعتنت بتعليم الشباب، إضافة إلى الأطفال، من أجل الخدمة الكنسية، ثم جاءت النقلة الأهم مع افتتاح إذاعة القدس سنة 1936، واجتذب القسم العربي فيها كثيراً من الموسيقيين الفلسطينيين، الذين لعبوا دوراً مهمّاً بعد ذلك في النهضة الموسيقية بعدد من البلدان العربية، من هؤلاء: محمد غازي (1922 ـ 1979) وروحي الخماش (1923 ـ 1998) وصبري الشريف (1922 - 1999) وفهد النجار (1935 - 1980) ويحيى اللبابيدي (1900 ـ 1941) الذي ترأس قسم الموسيقى العربية بالإذاعة، ورياض البندك (1924 ـ 1992) ويحيى السعودي (1905 ـ 1965) وغيرهم.
في الفترة التالية لتأسيس إذاعة القدس، نشط رئيسها الموسيقي يحيى اللبابيدي حتى يغذيها بعدد كبير من الأغاني سواء لمطربين محليين، مثل فهد النجار وماري عكاوي والمغنية الشعبية رجاء الفلسطينية، أو بأغاني فنانين عرب، مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وصالح عبد الحي وزكريا أحمد ولور دكاش. تميزت الإذاعة الفلسطينية وقتها بتخصيص فقرات للموسيقيين والعازفين العاملين فيها كي يقدموا بعض التقاسيم، ومنهم يحيى السعودي على العود، وإبراهيم عبد العال على القانون.
كانت هذه الأسماء وغيرها وراء ازدهار الحياة الفنية بفلسطين في ذلك الزمن، لكن بعد النكبة توزع كثير من هؤلاء على البلاد العربية المجاورة، فكان أن رحل اسمان مثل محمد غازي وصبري الشريف إلى بيروت، بينما هاجر روحي الخماش إلى العراق، أما رياض البندك ويحيى السعودي فكان مستقرهما في سورية.
في بيروت، التحق صبري الشريف بالأخوين رحباني، وإن كان التعاون معهما بدأ في تاريخ سابق على استقراره بلبنان، حين كان الشريف يترأس قسم الموسيقى في إذاعة الشرق الأدنى (1949) التابعة لوزارة الخارجية البريطانية. عبر إذاعة دمشق تعرف إلى أعمال الأخوين رحباني، ساعيا إلى لقائهما بتحريض من شغفه بالفولكلور، ليتعاقد معهما ويسخر الجزء الأكبر من ميزانية القسم في خدمة مشروعهما، واستمر في العمل معهما بعد نقل الإذاعة إلى قبرص وانتقاله للعيش هناك، وإلى أن استقال في عام 1956 احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر.