الإنسان المؤجّل: أفلامٌ وأمنيات لبنانية

12 أكتوبر 2024
رندة الشهّال خلال تصوير "طيارة من ورق"، 2001 (رمزي حيدر/ فرانس برس)
+ الخط -

ما إنْ ينقشع غبار الحرب في لبنان، حتّى تبدأ نُذر حربٍ جديدة تلوح في الأفق. ما إنْ ينتهي اللبنانيون من لملمة جراحهم، وترميم بناهم المادية، حتّى تظهر جراحهم الوجدانية، وقصصهم وحكاياهم وأحلامهم التي هشّمتها الحرب. لا فرق كبيراً بين حرب أهلية وأخرى خارجية، فلكلّ منهما ظروفٌ وملابسات وسوء تفاهمات، فيبدو لبنان نفسه مُجوَّفاً من داخله، طالما أنّ المتصارعين فيه لم يحسبوا حساب أن الإنسان مُركَّب من عنصري الكرامة الإنسانية وحقّ الحياة. الحرب إذا لم تقتل، تُربّي الجماعة الإنسانية على العيش في ظلّ كرامة إنسانية منقوصة. هنا، يبدو الوجع القابل للمحاكاة إبداعياً، في فسحات ما بين الحروب، كمهمّة ثقافية أو سياسية ضرورية، وكمحاولة لاستعادة المفقود من الكرامة الإنسانية المهدورة بالرصاص والقنابل، فيبدو المشهد الإبداعي عبثياً من جهة، وتأريخياً من جهة أخرى.

من هنا، نلمس في الأفلام اللبنانية نكهةَ الحروب القاسية، بغض النظر عن نوع الحروب المندلعة والمحتدمة بين أطراف، يُشكّلٍ مُجرّد وجودها تهديداً جديّاً بحربٍ ما. في الأفلام اللبنانية التي تناولت الحرب على امتداد العقود الأربعة الماضية، بألوانها وأشكالها، يُلاحَظ عدم وجود إنتاج تجاري يدعمها، ما يشير إلى إحالتها إلى الشأن الثقافي، الذي يحصر المشاهدين بنوع محدّد من الجمهور. إضافة إلى اعتمادها مصادر تمويلية من جهاتٍ أو جمعيات ثقافية من هنا وهناك، ما يستهلك جزءاً أساسياً من الجهد الإبداعي، الذي يُوظَّف عادة في خدمة الأفلام نفسها. هذا كلّه لا يجعل منها سينما بمعنى "فيلم ـ صالة ـ جمهور". في المقابل، هذا يجعل تأثيرها محدوداً في الأجواء العامة، في الاجتماع اللبناني، على حساب انتشارها في المهرجانات الدولية ومسابقاتها.

الفيلم اللبناني، بالمعنى الآنف، يرصد المرارة والخيبة والخسارة، وقطع الطريق عن المستقبل والأحلام. فلولا هذه الحروب المتكرّرة، لما تأذّى الناس في جوانيّتهم، رغم الخسائر المادية والمعنوية الكبرى. لكنّ تأثيرات هذه الحرب تصنع تشويهات في الروح الإنسانية، عبر إعطاب روحيّة الإنتاج والإبداع، بسبب تحطّم جزءٍ مهمّ من إمكانيات هذا الإنتاج، وترك الباب مُشرّعاً على الأحقاد والانتقام والحذر من الآخر، وهذه إمكانيات تُجدّد الحروب، الأهلية منها والخارجية.

هذا ما قدّمه مارون بغدادي (1950 ــ 1993)، على الأقلّ في أفلامه القليلة: تأثير العنف الحربي على العيش العام، عبر تقديم شخصيات نمطية، تتجاوز فرديّتها لتكون نموذجاً لخراب السلوك الذي تؤدّي اليه إلحرب. هذا واضح تماماً في فيلمه الروائي الطويل الأول "حروب صغيرة" (1982)، الذي نرى فيه تدهور الحياة البشرية وتدحرجها في سياقات الخراب والتخريب، ما يشير بكلّ سخرية وعبثية إلى التحضير لحربٍ عبثية مقبلة. نتابع في الشريط حكاية الحرب اللبنانية عام 1975 من خلال ثلاث شخصيات. طلال ابن الإقطاعي الذي يعود مع اختفاء والده إلى منطقته وزعامته الموروثة، وثريا التي تعشق طلال وتحاول مساعدته على خطف رجل أعمال، ونبيل المصور الصحافي الذي يتاجر بالمخدرات تحت غطاء الحرب الأهلية ويحاول أن يأخذ موقع البطل الشهيد الذي يسعى إلى أن يكونه لكنه بعيد كل البعد عن أن يكون كذلك.

لا يختلف الأمر عند السينمائي جان شمعون، الذي يُمكن إسقاط صفة المرارة على إنتاجاته في أفلامه عن الحروب على لبنان، رغم انطلاقها من خلفية فكرية متّصلة بالتزام المسألة الفلسطينية، خاصة في أفلامه الوثائقية التي تؤرشف النضال السياسي والاجتماعي للفلسطينيين، وكذلك لمعاناة اللبنانيين من الحروب، حتى باتت أفلامه ذاكرة للعيش في ظلّ الحروب ونتائجها، كـ"أحلام معلّقة" (1992)، عن عائلات المخطوفين اللبنانيين، وتوقّف حيواتهم بسبب هذا الغياب غير المُبهم، لكنْ الذي يستحيل إعلانه، ففيه يكمن ينبوع المرارة.

يمكن تناول أعمال جوسلين صعب (1948 ــ 2019)، مثل "بيروت لم تعد كما كانت" (1975)، و"أطفال الحرب" (1976)، و"رسالة من بيروت" (1979)، و"اللبنانيون رهائن مدينتهم" (1987)، أو أعمال رندة الشهّال (1953 ــ 2008) مثل "حروبنا الطائشة" (1996) و"طيارة من ورق" (2003)، إلى جانب أعمال المخرج سمير حبشي (1961) مثل "دخان بلا نار" (2009) وغيرهم من المخرجين اللبنانيين، التي تطرح كلّها فكرة الوطن الآمن الطموح.

وعلى مسار موازٍ، التساؤل عن أسباب هذه الحروب بطريقة غير تأكيدية ومندهشة لتفاهة أسباب نشوبها، مقارنة بالثقافة الحديثة، وبالأخلاقيات التقليدية للاجتماع البشري. فالحروب، خاصّة الأهلية منها، تُمهِّد الطريق إلى الحروب الخارجية، لأنّها تُخلّف اجتماعاً ضعيفاً، لا يستطيع أنْ يُدافع عن وجوده. الأمل كامنٌ في ما ترجوه هذه الأفلام من صُنعها، بما يعني التفكير بالمستقبل. لكنْ، من يضمن هذا المستقبل، في ظلّ العوامل الثقافية ـ الاجتماعية؟ بهذا، يقول السينمائيون إنّهم فعلوا ما عليهم أنْ يفعلوه، وقالوا للمجتمع إنّ عليه تغيير ثقافته إلى ثقافةٍ جديدة، تضمن نموّاً اجتماعياً مستمرّاً لا تقطعه الحروب. فربما لا يصير تأجيلُ الحياة مُمكناً في ظلّ ثقافة مجتمعية حداثية، تستعمل العقل في تحقيق مصالحها.

المساهمون