لم تهدد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 الجهود الصهيونيّة في استلاب السرديات التاريخيّة، سواء على مستوى البحوث الأحفورية أو تاريخ المنطقة، على الرغم مما تتعرض له السردية الصهيونية من انتقادات تتحرك بين الشارع المحتج، والأكاديميات التي تعيد النظر في تعريفات كل من الصهيونية، ومعاداة الساميّة، والاحتلال. وفي خضم كل، هذا أعلنت دولة الاحتلال عن افتتاح "أول سفارة للسكان الأصليين" في القدس، التي لا تمثل أي بلد بعينه، بل "أصوات قادة السكان الأصليين في أنحاء العالم"، واحتضنها "متحف أصدقاء الصهيونيّة".
هذا الشكل من إقحام الصهيونيّة في تاريخ السكان الأصليين الذين تعرضوا للإبادة، يسمّى بالصهيونيّة الحيويّة، التي تدّعي أن اليهود، كل اليهود في كل العالم، "سكان أصليون" للمنطقة، بناء على أبحاث جينيّة مشكوك بأمرها، الأمر الذي ينتقده اليسار الإسرائيلي نفسه، ويتهمه بـ"الفاشيّة".
ما يثير الاهتمام هو الصورة المتداولة لافتتاح "السفارة"؛ إذ لدينا ممثلون عن السكان الأصليين لهاواي، وسكان بورتوريكو، وغيرهم. لكن الأكثر إثارة للجدل، هو تشامي توماس، من جنوب أفريقيا، ابن البلد الذي قاضى إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة، بتهمة الإبادة الجماعيّة. قال توماس من دون تردد، وبكل وقاحة: "أريد أن أعتذر إلى سكان إسرائيل عن الأمر المريع الذي ارتكبته حكومة جنوب أفريقيا. نحن آسفون".
السفارة وممثلو السكان الأصليين، إلى جانب الأزياء التي ارتديت والموسيقى التي عزفت في افتتاح السفارة، كلها محاولة للتحكم بالسردية التاريخيّة، تلك التي تحاول إسرائيل نفسها "إقحام" نفسها ضمنها عبر مفهوم السكان الأصليين، الذي إن كنا نريد تطبيقه على يهود إسرائيل؛ فالأمر يبدو مضحكاً.
الاستناد الإسرائيلي قائم على "معتقدات دينية" وليس حقائق تاريخيّة وبيولوجيّة. ناهيك عن أن مفهوم السكان الأصليين يأتي بعد الإبادة، لكن اليهود لم يبادوا، والهولوكوست لم يقض على "كلّ" اليهود. والسؤال: هل سيقبل تجمع "أصوات يهوديّة لأجل السلام" في نيويورك المعادي للاحتلال الإسرائيلي أن ينعتوا بالسكان أصليين؟
تكشف الصورة المُتداولة للاحتفال عن قدرة المال والسياسة لجعل بعض الأشخاص ينفون أصولهم نفسها، وفتح الباب لـ"مستعمَر" يتواطأ مع مستعمِر يرتكب إبادة جماعية، مشابهة لما تعرّض لها أسلاف المستعمَر؛ سواء في نيوزيلدنا أو أميركا الجنوبيّة، ناهيك عن أن الرهان على مفهوم "السكان الأصليين" يشمل الجميع إلا الفلسطينيين أنفسهم، بوصفهم "غزاة".
تقول السفارة إن هدفها كشف التزييف حول غياب أي وجود يهودي في المنطقة، لكن لا نعلم من يدّعي ذلك، لا إنكار أن اليهود موجودون في المنطقة، لكنهم كانوا جزءاً من نسيج المكان الديني والاجتماعي؛ فأي سكان أصليين نتحدث عنهم؟ والأهم: ما هي حدود هذه "الأرض الأصليّة"؟ هل هي الخريطة التي رفعها بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، ولا وجود لفلسطين فيها؟ أم ما تردده دانييلا وايز، زعيمة حركة الاستيطان، التي ترى أن إسرائيل من النهر إلى النهر، أي من النيل إلى الفرات؟
كل هذا الغموض لا يجيب عنه أحد، بل استخدمت في الحفل الافتتاحي كلمات مثل "معجزة" و"إرادة الربّ"، وغيرها من التعابير الدينيّة التي تشير إلى "ولادة دولة إسرائيل". لكن ماذا عن الاحتلال والمجازر، والتهجير المستمر منذ عام 1948، بل ذاك الذي يحصل حالياً على بعد أقل من 100 كيلو متر من تلك السفارة، في قطاع غزّة الذي يُباد سكّانه؟
تكشف الصورة مزيجاً من الأيديولوجيا الدينيّة العمياء وسلطة رأس المال والتلاعب السياسيّ لنفي الانتماءات الوطنية لسكان إسرائيل وجنسياتهم الأوروبيّة التي يحملون امتيازاتها، كما أنّهم يُقحمون في سردية تاريخيّة تهدد تاريخ أوروبا نفسه، بل تتركنا أمام سؤال: ألم يرتكب الأوروبيون بأعراقهم وأجناسهم وألوانهم المتعددة كثيراً من المذابح بحق اليهود؟ ألم يظهر مفهوم معاداة الساميّة في أوروبا نفسها؟ هل انتماء "اليهود الأوروبيين" لدولهم "البيضاء" مؤقت وقابل للنسيان؟
لا نملك إجابة، لكن ما نعرفه أن هناك الكثير من المواطنين الأوروبيين والأميركيين الذين تركوا بلادهم وانضموا إلى جيش الاحتلال لإبادة الشعب الفلسطيني.