يرصد المؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابيه، في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين"، توجه ضحايا المجازر من الفلسطينيين، إلى إعادة تجميع مكونات الصورة التاريخية لأحداث نكبة 1948، التي بذلت الرواية الرسمية الإسرائيلية كل ما في وسعها لإخفائها وتشويهها، وذلك بعد أن تحدثت القصة التاريخية الإسرائيلية، من دون أدنى خجل، عن انتقال طوعي جماعي أقدم عليه مئات آلاف الفلسطينيين، على حدّ قول المؤرخ.
يعتبر بابيه أن مصطلح "ترانسفير"، ما هو إلا معادل مخفّف لـ"التطهير العرقي"، فيتحدث أنه في العاشر من مارس/ آذار لعام 1948، وضعت مجموعة من أحد عشر رجلاً، مكونة من قادة صهيونيين قدامى، اللمسات الأخيرة على خطة "دالت"، التي تهدف إلى تطهير فلسطين عرقياً، مشيراً إلى أنه "في مساء اليوم نفسه، أرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين من أماكن واسعة في البلاد، وأرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لطرد الناس بالقوّة: إثارة الرعب واسع النطاق، محاصرة قرى ومراكز سكانية، حرق منازل وأملاك وبضائع، طرد، هدم، وزرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان من العودة إلى منازلهم".
الأمر لم يبدأ عند النكبة، بل يعود إلى أبعد من ذاك؛ فإذ بأوّل رئيس وزراء لإسرائيل، ديفيد بن غوريون، يصرّح قبل عقد من النكبة أمام اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، أنه يؤيد الترحيل القسري، ولا يجد ما هو غير أخلاقي فيه. وبالمقابل، لم ينتهِ الأمر عند النكبة، بل استمر إلى سلسلة من الجرائم التي أخذت تطعن واحدة تلو الأخرى بالدعاية التي دأبت إسرائيل على تصديرها للرأي العام العالمي.
يرفض بابيه إرجاع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل إلى عوامل زئبقية، وتعابير غامضة، تسمح للدول ذات السيادة بأن تفلت من تبعات ما ترتكبه من جرائم، من دون أن يرفع عن نفسه الإدانة، كونه فرداً من المجتمع المدان.
كما يرى أنه أصبح من المستحيل تقريباً، بعد الهولوكوست، إخفاء جرائم شنيعة ضد الإنسانية، وعلى الأخصّ، في عالمنا المعاصر، الذي يشهد ثورة في مجال الاتصالات، إذ لم يعد في الإمكان إنكار كوارث من صنع البشر، وإخفاؤها عن أعين الرأي العام.
ومع ذلك، يقول بابيه إن جريمة طرد الفلسطينيين من وطنهم في سنة 1948، جرى محوها كليّاً تقريباً من الذاكرة العامة العالمية: "هذا الحدث الأكثر أهمية في تاريخ فلسطين الحديث، جرى إنكاره بصورة منهجية منذ وقوعه، ولا يزال حتى الآن غير معترف به كحقيقة تاريخية، ناهيك عن الاعتراف به كجريمة يجب مواجهتها سياسياً وأخلاقياً".
على هذا المنوال، يعود المخرج الإسرائيلي، ألون شفارتس (Alon Schwarz) إلى دفاتر التاريخ، بالتحديد إلى أولى صفحات الاحتلال الإسرائيلي، ألا وهي مجزرة الطنطورة، التي وقعت بعد أسبوع من النكبة، وإعلان قيام "إسرائيل"، ونفذها لواء إسكندروني، التابع لجيش الاحتلال، في قرية الطنطورة الساحلية، وكان عدد سكانها حينذاك يتجاوز 1500 نسمة، استُشهد منهم أكثر من 250، فيما نزح من نجا منهم إلى قرية الفريديس.
يطرح شفارتس من خلال فيلمه الصادر 2022، "طنطورة"، تساؤلاً واضحاً: هل بالفعل وقعت المجزرة؟ ويستقصي عن إجابة، لا يتبناها بشكل مباشر، على الرغم من أنها تبدو جليّة لمن يشاهد الفيلم: نعم وقعت مجزرة في الطنطورة والجُناة شهود جنباً إلى جنب مع الناجين والضحايا.
ربما قرر شفارتس تصوير الفيلم من باب التصالح مع الماضي الوحشي والاعتراف به، أو إن صح القول في محاولة للتطهُّر من هذا التاريخ النازف. ولكنه، وعلى الرغم من الانتقادات التي شُنَّت ضده، لم يتردد بالقول: "لقد سلبنا الفلسطينيين تاريخهم. لم نطهرهم عرقياً فحسب، بل سلبناهم أيضاً القصة الحقيقية، لقد سلبناهم حق التذكّر".
الفيلم لم يأتِ بجديد بخصوص التساؤل الذي طرحه، ولكن ما قدمه هو الدعم للرواية الفلسطينية التي لا تترك مجالاً للشك حول حقيقة وقوع مجازر.
استند الوثائقي بشكل أساسي حوارات أجراها الأكاديمي تيدي كاتز مع 135 فلسطينياً ويهودياً ممن كانوا شهوداً على ما حصل في الطنطورة، معتمداً على التأريخ الشفوي. وفي ما بعد، التقى المخرج شفارتس من بقي من الشهود على قيد الحياة. يمثل أحدهم أمام الكاميرا، ويعترف ضاحكاً: "شهدت اغتصاب فتاة بالسادسة عشر من عمرها". ويتذكر آخر غير آبه: "أفرغت 250 طلقة من بندقيتي الرشاشة برؤوس أهالي الطنطورة"، إضافة إلى شهادات أخرى تمثّل صفعة لإسرائيل، خصوصاً إذا استحضرت في هذا الوقت الذي تحاول فيه إخفاء جرائمها بأقاويل هشّة لا يمكن تصديقها، لا تزال تتردد حتى اليوم بمفردات أخرى، على غرار الادعاء الذي تردد خلال العدوان الحالي على غزة بأن هناك مقرات لـ"حماس" تحت المستشفيات التي قصفتها، في محاولة لإيجاد مسوغات لإبادة جماعية.
بالعودة إلى إيلان بابيه، فإنه يذكر في هذا السياق، أن الروايتين التاريخيتين المتنافستين بشأن ما حدث في فلسطين سنة 1948، تتجاهلان مفهوم التطهير العرقي. وبينما تدعي الرواية الصهيونية أن السكان غادروا البلاد طوعاً، يتحدث الفلسطينيون عن النكبة التي حلّت بهم، وهذا تعبير مراوغ، حسب وصف بابيه، كون مفردة النكبة تشير إلى الكارثة نفسها أكثر مما تحيل إلى من أوقعها، ولماذا فعل ذلك.
يستذكر الإسرائيلي تاريخه عبر إحياءٍ مستمر لطقوس القتل والسرقة والنهب، وكان بن غوريون نفسه قد أعلن خلال اجتماع للجنة المركزية لحزب "مباي"، الذي أسس الدولة العبرية: "اتضح أن معظم اليهود لصوص. أقول هذا عن قصد وببساطة، لأن هذا للأسف صحيح".
عند إلقاء الضوء على هذه الجرائم ومحاولات طيّها، فإن شحنة من الغضب تتولد لدى المشاهد العربي لفيلم "الطنطورة"، لكنه غضب ممزوج بنوع من نيل الثأر كفيل بأن يثلج الصدر، ولا سيما أنه يشير بوضوح إلى أن الرواية الفلسطينية تنتصر، علاوة على المساعي الإسرائيلية لطمسها وحذفها من سجلات تاريخهم الذي يعج بالمذابح. فربما لم يتوقع مرتكبو المجازر أن هنالك من سيقرر الاعتراف بما فعله آباؤه وأجداده بالفلسطينيين، وما اقترفه جنود الاحتلال على مر التاريخ بأصحاب الأرض.
الحقيقة التي تستدعي وجود جانٍ، تستدعي بالمقابل حضور الضحية والناجي، وهؤلاء أيضاً لهم قصصهم التي يمكن أن تكون أكثر إثارة للاهتمام العالمي عندما يكون الحديث عن وقوع مجزرة، فسياسة الاحتلال في التطهير العرقي تعني إحالة كل مكان تطؤه قدم جيوشهم إلى أرض أشباح، يستوي بناؤها بالأرض، بلاد منهوبة، منازلها مهجورة، وأملاك ساكنيها مسلوبة. وبالنظر إلى تاريخ الاحتلال، يتبين أنه إجراء متسلسل نحو تغيير ديموغرافي وثقافي شامل يطاول الحجر والبشر.
لعل فيلم "جنين جنين"، للمخرج الفلسطيني محمد بكري، من الوثائق التي تدين الجرائم الإسرائيلية، وحاولت إسرائيل طمسها بفجاجة. صوّر بكري فيلمه في مخيم جنين غداة المجزرة (2002)، إذ التقى بكري بشهود على المجزرة، صور شهاداتهم فوق الركام، وروى سكان المخيم، بما فيهم الأطفال، ما حُفر في ذاكرتهم من مشاهد لجثث وأشلاء السكان.
في عام 2021، أي بعد 18 عاماً من إنتاجه، عاد "جنين جنين" إلى الواجهة مجدداً، حين قضت المحكمة المركزية في مدينة اللد بمنع عرضه، وذلك على خلفية دعوى قدمها الجندي الإسرائيلي نيسين مغناجي، الذي ظهر في الفيلم لبضع ثوانٍ، واتّهم بكري بـ"تشويه سمعته وتعريض حياته للخطر". كما اعتبرت المحكمة الإسرائيلية الفيلم بمثابة تشويه للحقيقة، وذلك لتجاهله وجهة النظر الإسرائيلية، على حد قولهم.
إن نظرنا إلى الحدث الفلسطيني عن بعد، فإن المجازر التي حدثت بشكل متواتر على امتداد تاريخ الاحتلال، ليست مجرد أعمال إجرامية، بل مسيرة تطهير عرقي بدأت منذ 75 عاماً، فالتعامل مع كل مجزرة على أنها جريمة قائمة بحد ذاتها، يشتت الانتباه عن منهجية التطهير العرقي الذي اعتمده الاحتلال بشكلٍ معلن منذ قيام ما يسمى بدولة إسرائيل.
الجرائم السابقة والإبادات التي يصعب حصرها، قد تكون خلفية تاريخية عما يجري الآن في غزة، ولا سيما بعد أن عاد مصطلح "تطهير عرقي" إلى الواجهة، فالتاريخ ليس سردية منفصلة عن الحاضر. ها هي فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تحذر من تعرض الفلسطينيين لخطر جسيم بإبادة جماعية، مشيرة إلى أن "إسرائيل قامت بالفعل بالتطهير العرقي الجماعي للفلسطينيين تحت ضباب الحرب. ومرة أخرى باسم الدفاع عن النفس، تسعى لتبرير ما قد يصل إلى التطهير العرقي".
وجاء تصريحها على خلفية الأمر الذي أصدرته القوات الإسرائيلية لأكثر من مليون فلسطيني في شمال غزة بالتوجه جنوباً خلال 24 ساعة، في ظل استمرار القصف الجوي.
كما حذر موقع "موندويس" الأميركي من عملية إبادة جماعية في قطاع غزة، وذلك بعد أن صرّح المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة، عبر بيان صحافي، بأن الخدمات الصحية دخلت "مرحلة حرجة"، وكثيراً من المصابين يضطرون إلى افتراش الأرض.
وعلى الرغم من مضي أسابيع على هذه التصريحات، فإن التخوّف لا يزال مستمراً حتى اللحظة من انقطاع إمدادات المستشفيات من الوقود والأوكسجين وسائر المعدات الطبية، عدا عن المجازر اليومية، التي وصل إجمالي عدد ضحاياها إلى أكثر من 10 آلاف شهيد خلال 30 يوماً.
في هذا العصر، لا تخفى عن أعين البشرية عملية التطهير العرقي، فالوثيقة تُبث بالصوت والصورة على مواقع التواصل الاجتماعي فور وقوع المجزرة، من دون الحاجة لإضاعة الوقت في عمليات المونتاج، التي تعطي سلطة لصانع العمل بانتقاء الزاوية التي سيتناولها من خلاله، إذ فسحت معطيات العصر الحالي المجال أمام الوثيقة لكي تصل مباشرة ومن دون وساطة إلى الجمهور العالمي.