أرسلت شعوبُ العالم خيرة لاعبيها في كرة القدم إلى قطر، للتنافس على كأس العالم. اشترى أرباب المقاهي المغاربة شاشات جديدة وكبيرة، لتوفير فرجة أكبر لمُشاهدي مباريات مونديال قطر 2022. في مباراة منتخبي السعودية والأرجنتين، امتلأت المقاهي المغربية كلّياً. شجّع المتفرّجون المنتخبَ السعودي بحماسة شديدة، وندّدوا بالحَكم الذي زاد شوطاً إضافياً من عِنده، قبل إطلاق صفّارة النهاية. احتفل المغاربة بالنصر على ليونيل ميسّي، وارتفعت معنوياتهم، ورفعوا سقف توقّعاتهم، كي يهزموا منتخب كرواتيا، وصيفة بطل العالم 2018 بقيادة لوكا مودريتش.
لم يسبق للمقاهي أنّ توافرت على شاشات تلفزيونية بهذين العدد والحجم. صار اللاعب يظهر على الشاشة بحجمه الطبيعي تقريباً، فيشعر المتفرّج كأنّ اللاعبَ حيٌّ وحقيقيّ أمامه. هذا يزيد التفاعلَ والحماسة، ويُلغي المسافة بين بلد التنظيم وبلدان المتابعة.
بفضل حجم الشاشات الكبيرة، المعلّقة على الجدران، صارت المقاهي أشبه بقاعات سينمائية. هذا يوفّر متعة هائلة للعيون. لا تستطيع السينما استقطاب مئات ملايين البشر، ككرة القدم. لكنّ قوّة السينما تكمن في أنّ أفلامها العظيمة لا تشيخ، وتُشاهَد مراراً بعد عشرات السنين من تصويرها، بينما تُفْقَد مباريات كرة القدم فور انتهائها.
صحيحٌ أنّ تصوير المباريات صار أشبه بالسينما، بفضل استخدام عدد كبير من الكاميرات، الثابتة والمنقولة والمُحَلّقة، وبفضل مونتاج فني يجري مباشرة. هذا عمل جبّار، تقوم به قنوات دولية. النتيجة: لم يعد المغاربة يشاهدون المسابقات الرياضية عبر قنوات تلفزيونية مغربية محلية.
بينما تتابع شعوب العالم وأممه المباريات، يتسلّم المعلّقون البلغاء الكلمة لتوصيفها باللغات كلّها. هنا يقع الفرق. يوجد صنفٌ نادر من المُعلّقين، يركّز على توصيف ما يجري على المستطيل الأخضر؛ وصنفٌ آخر يشرد معلّقوه عن فعل اللعب إلى تعابير انفعالية، كمباراة عظيمة، والجو مناسب للعب معشوقة الجماهير، وهذا لاعبٌ صام عن التهديف، ومحاولة تسديد مشرّفة، والكرة عند اللاعب رقم عشرة (يظهر على الشاشة والكرة بين قدميه، لكنّ المعلّق يُفكّر ويتحدّث للأذن بمنطق الإذاعة). يتحدّث المعلّق عن لاعبٍ ما، فيشير إلى عدد متابعيه في إنستغرام، وعدد زوجاته. فجأة، يسْرد معلومات جاهزة عن مونديال 1960. هذا خطابٌ جاهز، قبل بدء المباراة.
بعد سرد أمجاد الماضي، ينتقل المعلّق إلى تخمين النتيجة والتوقّع، ويعرض رأياً شخصياً في جُمل إنشائية طويلة، كأن يقول إنّ التعادل مُفيدٌ للفريق. غالباً ما يتحدّث المعلّق كواحدٍ من جمهور الفريق المُنافِس، فينسى الحياد، وتجرفه الحماسة، ويرفع صوته كثيراً. يشرد، فيتغزّل بشابّةٍ من الجمهور. وحين يُسَجَّل هدفٌ، يتمنّى النصر للفريق، كأنّ الأحلام الكُروية تتحقّق من تلقاء نفسها.
لا يُقدّم هذا الصنف من المعلّقين أي معلومة مفيدة لمتفرّجي المباريات.
يوجد تشابه بين طريقة حديث هذا المعلّق عن كرة القدم ومعلّقين كثيرين عن السينما، يعرضون خطاباً إنشائياً فضفاضاً عن السينما، كأنّ يقولون إنّها فنّ عظيم يسحر الملايين. خطاب وتنظير عقيم مُجرّد وناجز قبل مُشاهدة فيلمٍ، وقبل بدء مهرجان.
الطريقة الثانية للتعليق على مباراة لكرة القدم يمارسها معلّق، يُنتج خطابه بينما الكرة تتحرّك في الملعب. هكذا يُركّز على توصيف مباراة جارية، فيُشير إلى قدرة لاعب معيّن على تمرير الكرة وتوقيفها، واللعب في أكثر من موقع، وقدرة لاعب آخر على المراوغة والتسديد.
يُميّز هذا المعلّق الماهر بين حراسة المنطقة والحراسة اللصيقة، وينتبه إلى مهارة مدرّب السعودية في كسر الهجوم الأرجنتيني بخطّة التسلّل، واستخدام حراسة المنطقة لا حراسة ميسّي رجلاً لرجل، لقدرة الأرجنتينيّ على المراوغة والفرار. ينتبه المعلّق إلى لاعبٍ يمتلك الطزاجة البدنية، وآخر يفتقدها في المباراة. يميّز بين المزاجية والتخطيط في سلوك لاعب، وبين العقلية المحترفة والعقلية الهاوية. يلاحظ علاقة اللاعبين في ما بينهم، وكيف تنعكس على سلاسة التمريرات.
يصف المعلّق المتمكّن فنّ الضغط على حامل الكرة، ويرصد بصمة مدرّب طارئ، حتى لو لم يساهم في تأهّل المنتخب المغربي مثلاً. يُنوّه بأهمية صنع فريق منسجم، لا تُخرّب النزعات المزاجية قدراته الهجومية.
يُحصي المعلّق عدد تمريرات كلّ لاعب، ومهارة استقباله الكرة، وقدرته على السيطرة عليها. يصف قدرة اللاعبين على الانتشار، وتحويل الاستحواذ على الكرة إلى تهديف. يرصد مصادر الطزاجة البدنية وأثرها في فعالية المرتدّات، التي تفتح ممرّاتٍ في الخط الخلفي للفريق الخصم.
هذا صنف معلّق رياضي يتحدّث لغة الخبير، لا لغة المتحمّس. الحماسة للجمهور، ليس للمعلّق الخبير. ما أندر هذا الصنف من المعلّقين، خصوصاً في العالم العربي. فعند الاستماع إلى المعلّقين الإنكليز، يختلف الأمر. نحن نستمع إلى مُعلّقين اثنين على مباراة واحدة. كلاهما هادئ، لا يرتفع صوته إلا عند إحراز هدف. معظم حديثهما تحليليّ، يعرّفنا على تفاصيل قد لا ينتبه إليها سوى الخبير. لا يُبدي أحد منهما رأيه في قرار الحكم. يتركان هذا للاستوديو التحليلي. بحد أقصى، قد يقول أحدهما إنه يظنّ أن الحكم بحاجة إلى مراجعة قراره. لكن، يمتنعان عن الاعتراض عليه. وفي كثير من الأحيان، يصمتان. يتركان للمشاهد حرية المتابعة والاستماع إلى أصوات الجماهير، وصوت الكرة نفسها وهي تتنقل بين أقدام اللاعبين.
في السينما، هناك أيضاً من يتحدّث عن فيلمٍ، وليس عن جماليات السينما الساحرة، والقابضة على جوهر الوجود الإنساني. ما أكثر المعلّقين من الصنف الأول في الكرة والسينما، وما أندر المحلّلين من الصنف الثاني.
المقابل السينمائي لهذا المعلّق هو الناقد، الذي يكتب عن فيلمٍ محدّد بعد مُشاهدته، ويتحدّث عن سيناريو ينطلق من صُدفة لبناء تداعيات درامية تراكمية. سيناريو يُبرز رغبات الشخصيات، والعوائق التي تواجهها. ناقدٌ يرصد المؤشّرات البصرية في الفيلم، وكيفية تصوير ردود فعل وجوه الممثّلين. ناقدٌ دقيق الملاحظة، يُبيّن للقارئ كيف يجعل المونتاجُ الأحداثَ أقلّ عشوائية.
هذا عملُ ناقدٍ من الصنف الثاني، الذي ينشئ خطاباً يخصّ فيلماً مُحدّداً، وتحديداً بصدد أفلام المهرجانات التي تحتفي بسينما المؤلّف، التي تحتاج إلى مواكبةٍ نقدية سينمائية عميقة، لا تقدر عليها أخبار الفساتين والقُبل وكيفية الأوضاع المُتّخذة.
كذلك التعليق على مباراة كرة قدم، يكون أكثر تأثيراً كلّما كان عميقاً ومُركّزاً على فعل اللعب.