لو بُعث رائد النهضة الموسيقية المصرية محمد عثمان من مرقده لغمرت السعادة روحه وقلبه، بعد أن يشاهد أغلبية المطربين والملحنين مشغولين جميعاً بـ"التراث"، و"حفظ التراث" و"إحياء التراث" و"إعادة تقديم التراث"... خصوصاً أنّ التنافس على إحياء الماضي الموسيقي بلغ حد الشجار والصراع.
وآخر الفصول معركة كبيرة تدور رحاها حالياً بين اثنين من أشهر المطربين المصريين، هما علي الحجار ومدحت صالح. أما أصل الخلاف فهو تبني كل منهما فكرة مشروع لخدمة التراث الغنائي. لن تطول سعادة عثمان، إذ ستظهر له الحقيقة واضحة، فأحفاده وذريته من أهل الفن لا يكاد يتفق منهم زميلان على المراد بلفظة "التراث"، إلى درجة أن معانيها تتعدد بتعدد مستخدميها، بل إن دلالة الكلمة تبدو مشوشة مضطربة في ذهن الشخص الواحد، فيستخدمها بمعنى يوم السبت، وبآخر يوم الأحد، وبثالث الاثنين.
إذاً، فالدعوة لحفظ التراث أو لإحيائه تأتي في سياق صاخب مرتبك. لا يتبين حجم اختلاف أهل الفن في مفهوم التراث الغنائي والموسيقي إلا باستعراض وجهات النظر الرئيسة في المسألة، وهي تكاد تنقسم إلى خطين أساسيين: الأول يعتمد على معيار الزمان والتاريخ، والثاني يرجح معيار النوع والإنتاج. وتحت الخطين أقسام فرعية كثيرة.
في الخط الزماني تتعدد زوايا النظر، وتختلف التقديرات والأذواق. يرى بعض النقاد والموسيقيين أن لفظة "تراث" لا تشمل إلا موسيقى ما يعرف بعصر النهضة، الممتد من أواسط القرن التاسع عشر إلى منتصف عشرينيات القرن الماضي، ومنهم من يمدها إلى أواخر الثلاثينيات أو أول الأربعينيات. ويرى آخرون أن عقود الخمسينيات والستينيات، بل والسبعينيات، تمثل جزءاً مهماً من التراث؟ كيف لا، وهي فترة كان يعيش فيها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم؟ وبنظر هؤلاء، فإن أغنيات عبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، وصباح، وشادية، وفايزة أحمد، ووردة تراث غنائي، لا سيما بعد أن مرّ على معظمها أكثر من نصف قرن، وأصبحت الأجيال الجديدة تصفها بـ"غناء الزمن الجميل". لا يتوقف وصف "التراث" عند هذا الحد الزماني. على مواقع التواصل، يكثر الحديث عن "نوستالجيا" أغاني التسعينيات، بل استخدم بعضهم تعبير "تراث عمرو دياب".
في المقابل، يأتي الخط النوعي المعياري، الذي يرى أن الغناء التراثي هو الذي يراعي الأساليب القديمة في التلحين، والتقنيات الموروثة في الأداء. يعنون ذلك الغناء المتسم بطابع مشيخي طربي، الذاخر بالعُرب والقفلات والارتجالات. حتى لو صدر في السبعينيات أو الثمانينيات، كما نجده في تسجيلات الشيخ إمام عيسى. ويرى هؤلاء أن أم كلثوم ــ رغم تخليها عن قوالب كلاسيكية رئيسة ــ ظلت توظف تلك الأنماط الأدائية القديمة حتى أوائل الستينيات. فالأداء التراثي، نمط وروح وأسلوب، لا حقبة زمنية معينة.
ليس مقصوداً ولا مطلوباً أن يجتمع أهل الفن في صعيد واحد، ليضعوا تعريفاً لـ"التراث"، لكن من واجب من يطرح فكرة مشروع كبير للتعامل مع التراث الغنائي أن يبيّن مقصده، ولا يترك المهتمين بالفن حيارى.
يمثل علي الحجار ركناً مهماً في الغناء المصري المعاصر، وقد ساهم في تشكيل وجدان أجيال عدة منذ صعوده أواخر السبعينيات، وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي. فكان في مقدمة مجموعة من أصحاب الأصوات المؤثرة: مدحت صالح، ومحمد الحلو، ومحمد منير، وإيمان البحر درويش. ولأسباب كثيرة، كان الحجار أوثقهم علاقة بالتراث الغنائي القديم، فوالده المطرب والملحن إبراهيم الحجار كان له دور كبير في تدريبه على الموشحات والإيقاعات، والقوالب التراثية. لكن علي، كبقية زملائه، أدرك تغير المزاج الجماهيري، وكساد سوق الأنماط الغنائية القديمة، فاختار، كما اختار زملاؤه، طريقاً وسطاً، لا يرقى إلى الكلاسيكية القديمة وقوالبها، ولا حتى إلى "الكلاسيكية العُرفية" التي تمثلها ألحان عبد الوهاب والقصبجي والسنباطي، لكنه أيضاً طريق لا ينزل إلى ما يعتبره المزاج الشعبي "ابتذالاً" أو "إسفافاً".
منذ عام 2002، بدأ علي الحجار طرح فكرته لإعادة تقديم التراث الغنائي، من خلال مشروع عنوانه "100 سنة غُنا". طرق أبواب المسؤولين، ووصل بفكرته إلى فاروق حسني، وزير الثقافة الأشهر في عهد الرئيس المصري حسني مبارك، ونال منه موافقة ممهورة. لكن تغير الإدارات داخل الوزارة عطل "المشروع".
وخلال أكثر من عقدين، لم يكُف الحجار عن التبشير بفكرته، إلى أن فوجئ أواخر الشهر الماضي بإعلان دار الأوبرا المصرية عن مشروع "مدحت والكبار" أو "الأساتذة"، بالتعاون مع المطرب مدحت صالح، ورعاية شركة المتحدة للخدمات الإعلامية. ورأى الحجار أن التفاصيل التي أعلنت من قِبل رئيس الأوبرا خالد داغر، في المؤتمر الصحافي المشترك مع صالح، تؤكد أنه جرى الاستيلاء على فكرته، وتجاهل كل جهده على مدى 20 عاماً لتنفيذها.
في لقاءاته الصحافية والتلفزيونية الأخيرة، أوضح الحجار المعالم الأساسية لفكرته، وتتمثل في إعادة تقديم ألحان كبار الموسيقيين المصريين، بدءاً من الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب وعبده الحامولي ومحمد عثمان، ومروراً بعبد الوهاب وزكريا أحمد، ومحمد القصبجي ورياض السنباطي، وانتهاء بمحمد الموجي، وكمال الطويل، وبليغ حمدي. لكن مشروع الحجار لا يستهدف كل أعمال هؤلاء الأعلام، بل سيقتصر اختياره منها على ما يصلح لإعادة التوزيع ويقبل "الهارموني". وأكد الرجل أنه صاغ رؤيته هذه في دراسة كاملة، وكان يقدمها مكتوبة للمؤسسات الفنية، ولا يكتفي بالعرض الشفهي.
ومن المؤكد أن من يستمع إلى الحجار وهو يعرض فكرته، ثم يستمع إلى المؤتمر الصحافي لمدحت صالح مع رئيس دار الأوبرا سيجزم، أنه أمام مشروع واحد، أو فكرة واحدة، جوهرها إعادة التوزيع و"الهرمنة"، مع فرق بين المشروعين في الحقبة الزمنية التي يعاد تقديمها. فبينما يوغل مقترح الحجار في القدم ليصل إلى أواخر القرن التاسع عشر، أي للأدوار والموشحات، يقتصر حديث صالح على ألحان الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وهو ما تأكد في حفله الأول الذي أطلقت به دار الأوبرا "المشروع"، إذ غنى صالح أعمالاً لكل من محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وفريد الأطرش، ومحمد فوزي، ومحمد الموجي، وكمال الطويل، وبليغ حمدي، والأخوين رحباني، وطلال مداح.
إذاً فإن ما أغضب الحجار من مدحت صالح ومن دار الأوبرا هو تجاهل "أسبقيته" بالفكرة، وإلا، فليس بين الرجلين خلاف أصلاً، وقد التقيا ومن خلفهما الأوبرا على "إعادة التوزيع" و"الهرمنة" وقصور التخت عن إبراز جمال الألحان، أو عجزه عن تمرير ألحان "الأساتذة" إلى الشباب والأجيال الجديدة.
لم ينشغل الحجار ولا صالح بالتقديم الأمين للتراث، ولم يريا خدمة يمكن تقديمها لهذا التراث إلا "الهرمنة" وتجاوز "التخت". والحقيقة أن الغناء في مصر قد تجاوز التخت في صورته الأصلية منذ 70 عاما على الأقل، فلا فرقة أم كلثوم، ولا فرقة عبد الحليم، ولا فرقة فريد الأطرش يمكن أن تسمى "تختاً"، ولا ألحان الموجي ولا الطويل ولا بليغ كانت تقدم على تخت. لكن الحجار وصالح اتفقا على أن هذه الأعمال لن تصل إلى الناس عموماً، والشباب خصوصاً، إلا عبر أوركسترا ضخمة، تتزاحم فيها الآلات، ويعاد عليها التوزيع، مع "الهرمنة" التي ستنقل العمل إلى "حتة تانية"، وفق تعبير صالح في مؤتمره الصحافي.
ومن اللافت، أن رئيس دار الأوبرا، أكد أن الدار تقدم هذا اللون (الذي يتنازع عليه الحجار وصالح) كثيراً، وأنه لا جديد في الأمر، إلا تسليط الضوء الإعلامي المكثف على الحدث، لينال اهتماماً جماهيرياً استثنائياً.
يدرك كل من يعرف حجم الغناء المصري، وتنوعه، واختلاف أنماطه شكلياً وأدائياً، أن إعادة التوزيع، والهارموني، لا يمكن أن تمثل مشاريع حقيقية أو جادة، إذ لا معنى ولا إضافة حقيقية يمكن تحصيلها من إعادة إنتاج مئات الأغنيات بتوزيع أوركسترالي، وقد أثبتت تجارب سابقة أن احتفاء الجماهير بهذه الأعمال مؤقت، يأخذ فترته مع الصخب والضجيج، ثم يعود الحنين إلى التسجيل الأصلي، بمطربه الأول، وعازفيه المتمرسين. ولا يمكن لمؤسسات فشلت في تقديم التراث في صورته الأصلية أن تنجح في تقديمه "موزعاً مهرمناً".