بناء تصاميم هندسية معقدة في وقت قياسي، ليس بالأمر السهل على كائنات بعقول كبيرة. لذا، لطالما حظيت العناكب باهتمام وإعجاب خاص في الفن والأدب، لقدرتها على حياكة شباك بأشكال مميزة، وبأحجام ضخمة مقارنة بحجمها. في العنكبوت، وجد أربعة علماء مختصين بالأحياء السلوكية، من بينهم عالم يُدعي أندرو غوردس، فرصة لمحاولة دراسة ميكانيكيات الدماغ المعقدة والأكثر غموضًا في علم الأحياء.
يقول غوردس من جامعة جونز هوبكنز: "لو ذهبت إلى حديقة الحيوان ورأيت شمبانزي يبني شبكة مثل التي يبنيها العنكبوت، ستعتقد أن هذا الشمبانزي مميز ومثير للاهتمام بعد رؤية الشبكة الرائعة. حسناً، هذا مدهش لأن دماغ العنكبوت صغير جداً، ومن المؤسف أننا لا نعرف الكثير عن هذا السلوك المدهش".
اختار غوردس وزملاؤه نوعاً من العناكب يُعرف بـ Uloborus diversus وهو من فصيلة "الغازل المداري" أو Orb-weaver spider، وهي فصيلة شائعة من العناكب غير السامة، التي تغزل شباكها في شكل حلقات (أو مدارات) لولبية. في ملحمة "التحولات"، جعل الشاعر الروماني أوفيد، عنكبوت الغازل المداري من سلالة " أراكْني"؛ فتاةً من ليديا عُرفت بنسجها قطعًا جميلة تحدت بها الآلهة؛ فعوقبت بأن تم تحويلها إلى عنكبوت. بهذه الأسطورة الإغريقية، استهل العلماء مقدمة بحثهم (منشور في مجلة Current Biology)، عن دراسة أنماط الحركة في بناء شباك العنكبوت.
تبني العناكب "شبكة أولية" تكون عشوائية ولا تدخل في تكوين الشبكة النهائية، ويعتقد أن الهدف منها قياس واستكشاف المكان
اختار العلماء هذا النوع بالتحديد من العناكب، لعدة أسباب، من شأنها جعل الدراسة ممكنة ودقيقة. ومن هذه الأسباب، أن هذا النوع نشيط في بناء الشباك على مدار العام، على العكس من أنواع أخرى من العناكب التي تكون دراستها محددة بفترات زمنية محصورة. إضافة إلى ذلك، تتميز Uloborus diversus بقدرتها على تحمل ظروف التجربة.
لكن هذا النوع من العناكب، يفضل حياكة شباكه في الظلام، من دون الحاجة إلى الرؤية؛ إذ يغزل شبكته بالاعتماد على الاستشعار فقط. استعمل العلماء التصوير بالأشعة تحت الحمراء لتسجيل حركات أرجل ست عناكب وهي تبني ما مجموعه 21 شبكة. سُجلت كل حركات الأرجل تقريباً، بما فيها الحركات الأكثر سرعة، بدقة عالية، وبتتبع تغير مواقع 26 نقطة في جسم العنكبوت.
بالطبع، سيكون من الصعب جدّاً دراسة وتحليل نمط الحركات يدويًا، للتعامل مع الكم الهائل من البيانات. استفادت الدراسة من برامج الذكاء الصناعي لتحليل حركات أرجل العناكب. يقول أبيل كورفر، من فريق البحث: "حتى لو سجلنا (العملية) بالفيديو، هناك الكثير من الأرجل التي علينا تتبعها على فترات طويلة من الوقت". يضيف: "من الصعب تسجيل نقاط الأرجل في كل لقطة يدوياً، لذا قمنا بتمرين برنامج خاص لالتقاط وضعية الأرجل، كادراً بكادر، حتى نتمكن من توثيق كل ما تفعله الأرجل لبناء الشبكة بالكامل".
يسعى الفريق إلى دراسة نشاط العناكب بعد إعطائها مواد كيميائية تؤثر في نشاط الدماغ، بهدف تحديد الدوائر العصبية المسؤولة عن المراحل المختلفة في بناء الشبكة
خرج فريق البحث بعدة نتائج؛ إذ وجدوا أن أنماطاً محددة من حركة العناكب، تشير إلى التقدم في بناء الشبكة في عدة مراحل. في المرحلة الأولى، تبني العناكب "شبكة أولية"، تكون عشوائية ولا تدخل في تكوين الشبكة النهائية. ويعتقد أن الهدف منها قياس واستكشاف المكان، قبل البدء ببناء الشبكة في مراحل متتالية، تبدأ ببناء الإطار وخطوط نصف القطر، ثم الهياكل الحلزونية في مرحلتين إضافيتين، وأخيرًا تُضيف بعض أنواع العناكب أشكالًا معينة في وسط الشبكة، يعتقد أن هدفها التمويه أو جذب الفرائس.
تبين من البحث، أن كل العناكب المدروسة تتبع نفس "القواعد" في بناء شباكها، وإن كانت النتيجة النهائية مختلفة بعض الشيء. هذا يعني، بحسب وصف العلماء، أن "قواعد" بناء الشبكة، مشفرة في أدمغتها. هذا الاكتشاف وفهم هذه "القواعد" العامة التي تتبعها العناكب، مكّن فريق البحث من توقع كيف سيكون شكل أي شبكة ستبنيها العنكبوت من خلال معرفة الوضعية الأولى لأرجلها فقط!
يسعى الفريق، في خطوتهم التالية، إلى دراسة نشاط العناكب بعد إعطائها مواد كيميائية تؤثر في نشاط الدماغ، بهدف تحديد الدوائر العصبية المسؤولة عن المراحل المختلفة في بناء الشبكة. يقول كورفر: "العنكبوت مدهش، إنه كائن لديه دماغ مكون من نفس اللبنات الأساسية التي تكون أيضًا أدمغتنا. هذا البحث يمكنه أن يعطينا مفاتيح تساعدنا في دراسة أدمغة أكبر وأعقد، بما فيها أدمغة البشر، وهذا أمر رائع للغاية".